فصل: تفسير الآيات رقم (22- 35)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***


تفسير الآية رقم ‏[‏4‏]‏

‏{‏تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ‏(‏4‏)‏‏}‏

اعتراض لبيان أن المعارج منازل من الرفعة الاعتبارية ترتقي فيها الملائكة وليست معارج يعرج إليه فيها، أي فهي معارج جعلها الله للملائكة فقرب بها من منازل التشريف، فالله معرج إليه بإذنه لا عارج، وبذلك الجعل وصف الله بأنه صاحبها، أي جاعلها، ونظيره قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذو العرش‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 15‏]‏‏.‏

و ‏{‏الروح‏}‏‏:‏ هو جبريل عليه السلام الموكل بإبلاغ إرادة الله تعالى وإذنه وتخصيصه بالذكر لتمييزه بالفضل على الملائكة‏.‏ ونظير هذا قوله‏:‏ ‏{‏تنزل الملائكة والروح فيها‏}‏ ‏[‏القدر‏:‏ 4‏]‏ أي في ليلة القدر‏.‏

و ‏{‏الروح‏}‏‏:‏ يطلق على ما به حياة الإِنسان وتصريفُ أعماله وهو المذكور في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 85‏]‏‏.‏ فيجوز أن يكون مما شمله قوله‏:‏ ‏{‏تعرج الملائكة والروح إليه‏}‏، أي أرواح أهل الجنة على اختلاف درجاتها في المعارج‏.‏ وهذا العروج كائن يوم القيامة وهو اليوم الذي مقداره خمسون ألف سنة‏.‏ وهذه تقريبات لنهاية عظمة تلك المنازل وارتقاء أهل العالم الأشرف إليها وعظمة يوم وقوعها‏.‏

وضمير ‏{‏إليه‏}‏ عائد إلى الله على تأويل مضاف على طريقة تعلق بعض الأفعال بالذوات، والمراد أحوالها مثل ‏{‏حرمت عليكم الميتة‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 3‏]‏ أي أكلها‏.‏ و‏{‏في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة‏}‏ يتنازع تعلقه كل من قوله‏:‏ ‏{‏واقع‏}‏ ‏[‏المعارج‏:‏ 1‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏تعرج‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏5‏]‏

‏{‏فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا ‏(‏5‏)‏‏}‏

اعتراض مفرع‏:‏ إِما على ما يومئ إليه ‏{‏سأَل سائل‏}‏ ‏[‏المعارج‏:‏ 1‏]‏ من أنه سؤال استهزاء، فهذا تثبيت للنبيء صلى الله عليه وسلم وإما على ‏{‏سأل سائل‏}‏ بمعنى‏:‏ دعا داع‏.‏

فالفاء لتفريع الأمر بالصبر على جملة ‏{‏سال سائل إذا كان ذلك السؤال بمعنييه استهزاء وتعريضاً بالتكذيب فشأنه أن لا تصبر عليه النفوس في العرف‏.‏

والصبر الجميل‏:‏ الصبر الحسن في نوعه وهو الذي لا يخالطه شيء مما ينافي حقيقة الصبر، أي اصبر صبراً محضاً، فإن جمال الحقائق الكاملة بخلوصها عما يعَكر معناها من بقايا أضدادها، وقد مضى قوله تعالى عن يعقوب فصبْرٌ جميل في سورة يوسف ‏(‏18‏)‏ وسيجيء قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واهجرهم هجراً جميلاً‏}‏ في المزمل ‏(‏10‏)‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏6- 7‏]‏

‏{‏إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا ‏(‏6‏)‏ وَنَرَاهُ قَرِيبًا ‏(‏7‏)‏‏}‏

تعليل لجملتي ‏{‏سال سائل بعذاب واقع‏}‏ ‏[‏المعارج‏:‏ 1‏]‏ ولِجملة ‏{‏فاصبر صبراً جميلاً‏}‏ ‏[‏المعارج‏:‏ 5‏]‏، أي سألوا استهزاء لأنهم يرونه مُحالاً وعليك بالصبر لأنا نعلم تحققهُ، أي وأنت تثق بأنه قريب، أي محقق الوقوع، وأيضاً هو تجهيل لهم إذ اغتروا بما هم فيه من الأمن ومسالمة العرب لهم ومن الحياة الناعمة فرأوا العذاب الموعود بعيداً، إن كان في الدنيا فلأمنهم، وإن كان في الآخرة فلإِنكارهم البعث، والمعنى‏:‏ وأنت لا تشبه حالهم وذلك يهوِّن الصبر عليك فهو من باب ‏{‏ولا تتبع أهواءَهم‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 48‏]‏، ‏{‏ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتَبَع هواه‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 28‏]‏‏.‏

و ‏{‏بعيداً‏}‏ هنا كناية عن معنى الإِحالة لأنهم لا يؤمنون بوقوع العذاب الموعود به، ولكنهم عبروا عنه ببعيد تشكيكاً للمؤمنين فقد حكى الله عنهم أنهم قالوا ‏{‏أإذا متنا وكنا تراباً ذلك رجع بعيد‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 3‏]‏‏.‏

واستعمل ‏{‏قريباً‏}‏ كناية عن تحقق الوقوع على طريق المشاكلة التقديرية والمبالغة في التحقق‏.‏ وبين ‏{‏بعيداً‏}‏ و‏{‏قريباً‏}‏ محسن الطباق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏8- 18‏]‏

‏{‏يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ ‏(‏8‏)‏ وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ ‏(‏9‏)‏ وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا ‏(‏10‏)‏ يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ ‏(‏11‏)‏ وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ ‏(‏12‏)‏ وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ ‏(‏13‏)‏ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ ‏(‏14‏)‏ كَلَّا إِنَّهَا لَظَى ‏(‏15‏)‏ نَزَّاعَةً لِلشَّوَى ‏(‏16‏)‏ تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى ‏(‏17‏)‏ وَجَمَعَ فَأَوْعَى ‏(‏18‏)‏‏}‏

يجوز أن يتعلق ‏{‏يوم تكون السماء‏}‏ بفعل ‏{‏تعرج‏}‏ ‏[‏المعارج‏:‏ 4‏]‏، أو أن يتعلق ب ‏{‏يَوَدُّ المجرم‏}‏ قدم عليه للاهتمام بذكر اليوم فيكون قوله‏:‏ ‏{‏يوم تكون السماء كالمهل‏}‏ ابتداء كلام، والجملة المجعولة مبدأ كلام تجعل بدل اشتمال من جملة ‏{‏ولا يسأل حميم حميماً‏}‏ لأن عدم المساءلة مسبب عن شدة الهَول، ومما يشتمل عليه ذلك أن يود المَوَل لو يفتدي من ذلك العذاب‏.‏

و ‏{‏المُهل‏}‏‏:‏ دُردِيّ الزيتتِ‏.‏

والمعنى‏:‏ تشبيه السماء في انحلال أجزائها بالزيت، وهذا كقوله في سورة الرحمان ‏(‏37‏)‏ ‏{‏فكانت وردة كالدِهان‏}‏

والعِهن‏:‏ الصوف المصبوغ، قيل المصبوغ مطلقاً، وقيل المصبوغ ألواناً مختلفة وهو الذي درج عليه الراغب والزمخشري، قال زهير‏:‏

كان فُتات العِهن في كل منزِلٍ *** نَزلْنَ به حَبُّ الفَنا لم يُحَطَّم

والفنا بالقصر‏:‏ حب في البادية، يقال له‏:‏ عنب الثعلب، وله ألوان بعضه أخضر وبعضه أصفر وبعضه أحمر‏.‏ والعهنة‏:‏ شجر بالبادية لها ورد أحمر‏.‏

ووجه الشبه بالعهن تفرق الأجزاء كما جاءت في آية القارعة ‏(‏5‏)‏ ‏{‏وتكون الجبال كالعهن المنفوشِ‏}‏ فإيثار العهن بالذكر لإِكمال المشابهة لأن الجبال ذات ألوان قال تعالى‏:‏ ‏{‏ومن الجبال جُدد بيضٌ وحُمْرٌ مختلف ألوانها‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 27‏]‏‏.‏ وإنما تكون السماء والجبال بهاته الحالة حين ينحلّ تماسك أجزائهما عند انقراض هذا العالم والمصيرِ إلى عالم الآخرة‏.‏

ومعنى ‏{‏ولا يسأل حميم حميماً‏}‏ لشدة ما يعتري الناس من الهول فمن شدة ذلك أن يرى الحميم حميمه في كرب وعناء فلا يتفرغ لسؤاله عن حاله لأنه في شاغل عنه، فحذف متعلق ‏{‏يسأل‏}‏ لظهوره من المقام ومن قوله‏:‏ ‏{‏يبصرونهم‏}‏ أي يبصر الأخلاء أحوال أخلائهم من الكرب فلا يسأل حميم حميماً، قال كعب بن زهير‏:‏

وقال كل خليل كنتُ ءآمُله *** لا أُلْهِيَنَّك إِني عنك مشغول

والحميم‏:‏ الخليل الصديق‏.‏

وقرأ الجمهور بفتح ياء ‏{‏يسأل‏}‏ على البناء للفاعل‏.‏ وقرأه أبو جعفر والبزي عن ابن كثير بضم الياء على البناء للمجهول‏.‏ فالمعنى‏:‏ لا يسأل حميم عن حميم بحذف حرف الجر‏.‏

وموقع ‏{‏يبصّرونهم‏}‏ الاستئناف البياني لدفع احتمال أن يقع في نفس السامع أن الأحِمَّاء لا يرى بعضهم بعضاً يومئذٍ لأن كل أحد في شاغل، فأجيب بأنهم يكشف لهم عنهم ليروا ما هم فيه من العذاب فيزدادوا عذاباً فوق العذاب‏.‏

ويجوز أن تكون جملة ‏{‏يبصرونهم‏}‏ في موضع الحال، أي لا يسأل حميم حميماً في حال أن كل حميم يبصر حميمه يقال له‏:‏ انظر مَاذا يقاسي فلان‏.‏ و‏{‏يبصرونهم‏}‏ مضارع بَصَّره بالأمر إذا جعله مبصراً له، أي ناظراً فأصله‏:‏ يبصَّرون بهم فوقع فيه حذف الجار وتعدية الفعل‏.‏

والضميران راجعان إلى ‏{‏حميم‏}‏ المرفوع وإلى ‏{‏حميماً‏}‏ المنصوب، أي يبصر كل حميم حميمه فجمع الضميران نظراً إلى عموم ‏{‏حمِيمٌ‏}‏ و‏{‏حميماً‏}‏ في سياق النفي‏.‏

و ‏{‏يودّ‏}‏‏:‏ يحب، أي يتمنى، وذلك إما بخاطر يخطر في نفسه عند رؤية العذاب‏.‏

وإما بكلام يصدر منه نظير قوله‏:‏ ‏{‏ويقول الكافر يا ليتني كنت تراباً‏}‏ ‏[‏النبأ‏:‏ 40‏]‏، وهذا هو الظاهر، أي يصرخ الكافر يومئذٍ فيقول‏:‏ أفتدي من العذاب ببني وصاحبتي وفصيلتي فيكون ذلك فضيحة له يومئذٍ بين أهله‏.‏

و ‏{‏المجرم‏}‏‏:‏ الذي أتى الجُرم، وهو الذنب العظيم، أي الكفر لأن الناس في صدر البعثة صنفان كافر ومؤمن مطيع‏.‏

و ‏{‏يومئذٍ‏}‏ هو ‏{‏يوم تكون السماء كالمهل‏}‏ فإن كان قوله‏:‏ ‏{‏يوم تكون السماء‏}‏ متعلقاً ب ‏{‏يودّ‏}‏ فقوله‏:‏ ‏{‏يومئذٍ‏}‏ تأكيد ل ‏{‏يوم تكون السماء كالمهل،‏}‏ وإن كان متعلقاً بقوله‏:‏ ‏{‏تعرج الملائكة‏}‏ ‏[‏المعارج‏:‏ 4‏]‏ فقوله‏:‏ ‏{‏يومئذٍ‏}‏ إفادة لكون ذلك اليوم هو يوم يود المجرم لو يفتدي من العذاب بمن ذكر بعده‏.‏

و ‏{‏لو‏}‏ مصدرية فما بعدها في حكم المفعول ل ‏{‏يود‏}‏، أي يود الافتداء من العذاب ببنيه إلى آخره‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏يومئذٍ‏}‏ بكسر ميم ‏(‏يوم‏)‏ مجروراً بإضافة ‏(‏عذاب الله‏)‏‏.‏ وقرأه نافع والكسائي بفتح الميم على بنائه لإِضافة ‏(‏يوم‏)‏ إلى ‏(‏إذ‏)‏، وهي اسم غير متمكن والوجهان جائزان‏.‏

والافتداء‏:‏ إعطاء الفِداء، وهو ما يعطى عوضاً لإِنقاذٍ من تبعةٍ، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن يأتوكم أسارى تفادوهم‏}‏ في البقرة ‏(‏85‏)‏ وقوله‏:‏ ولو افتدى به في آل عمران ‏(‏91‏)‏، والمعنى‏:‏ لو يفتدي نفسه، والباء بعد مادة الفداء تدخل على العوض المبذول فمعنى الباء التعويض‏.‏

ومعنى مِن‏}‏ الابتداء المجازي لتضمين فعل يفتدي معنى يَتخلص و‏{‏صاحبِته‏}‏‏:‏ زوجِهِ‏.‏

والفصيلة‏:‏ الأقرباء الأدْنَوْن من القبيلة، وهم الأقرباء المفصول مِنهم، أي المستخرج منهم، فشملت الآباء والأمهاتتِ قال ابن العربي‏:‏ قال أشهب‏:‏ سألتُ مالكاً عن قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏وفصيلته التي تؤويه‏}‏ فقال هي أمه اه، أي ويفهم منها الأب بطريق لحن الخطاب فيكون قد استوفى ذكر أقرب القرابة بالصراحة والمفهوم، وأمّا على التفسير المشهور فالفصيلة دلت على الآباء باللفظ وتستفاد الأمهات بدلالة لحن الخطاب‏.‏

وقد رتبت الأقرباء على حسب شدة الميْل الطبيعي إليهم في العرف الغالب لأن الميل الطبيعي ينشأ عن الملازمة وكثرة المخالطة‏.‏

ولم يذكر الأبوان لدخولهما في الفصيلة قصداً للإِيجاز‏.‏

والايواء‏:‏ الضم والانحياز‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏ءاوَى إليه أخاه‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 69‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏سآوي إلى جبل‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 43‏]‏‏.‏

و ‏{‏التي تؤويه‏:‏‏}‏ إن كانت القبيلةَ، فالإِيواء مجاز في الحماية والنصر، أي ومع ذلك يفتدي بها لعلمه بأنها لا تغني عنه شيئاً يومئذٍ‏.‏

وإن كانت الأمَّ فالإِيواء على حقيقته باعتبار الماضي، وصيغة المضارع لاستحضار الحالة كقوله‏:‏ ‏{‏الله الذي أرسل الرياح فتثير سحاباً‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 48‏]‏ أي يودّ لو يفتدي بأمه، مع شدة تعلق نفسه بها إذ كانت تؤويه، فإيثار لفظ فصيلته وفعل تؤويه هنا من إيجاز القرآن وإعجازه ليشمل هذه المعاني‏.‏

‏{‏ومن في الأرض جميعاً‏}‏ عطف على ‏{‏بنِيه‏}‏، أي ويفتدي بمن في الأرض، أي ومن له في الأرض مما يعزّ عليه من أخلاء وقرابة ونفائس الأموال مما شأن الناس الشح ببذله والرغبة في استبقائه على نحو قوله تعالى‏:‏

‏{‏فلن يقبل من أحدهم مِلْءُ الأرض ذهباً ولو افتدى به‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 91‏]‏‏.‏

و ‏{‏مَن‏}‏ الموصولة لتغليب العاقل على غيره لأن منهم الأخلاء‏.‏

و ‏{‏ثم‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏ثم ينجيه‏}‏ للتراخي الرتبي، أي يودّ بذل ذلك وأن ينجيه الفداء من العذاب، فالإِنجاء من العذاب هو الأهم عند المجرم في ودادته والضمير البارز في قوله‏:‏ ‏{‏ينجيه‏}‏ عائد إلى الافتداء المفهوم من ‏{‏يفتدي‏}‏ على نحو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏اعدلوا هو أقرب للتقوى‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 8‏]‏‏.‏

والمعطوف ب ‏{‏ثم‏}‏ هو المسبب عن الودادة فلذلك كان الظاهر أن يعطف بالفاء وهو الأكثر في مثله كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ودُّوا لو تكفرون كما كفروا فتكُونون سواء‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 89‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ودُّوا لو تدهن فيدهنون‏}‏ ‏[‏القلم‏:‏ 9‏]‏، فعدل عن عطفه بالفاء هنا إلى عطفه ب ‏{‏ثم‏}‏ للدلالة على شدة اهتمام المجرم بالنجاة بأية وسيلة‏.‏

ومتعلق ‏{‏ينجيه‏}‏ محذوف يدل عليه قوله‏:‏ ‏{‏من عذاب يومئذٍ‏.‏

وكَلاَّ‏}‏ حرف ردع وإبطال لكلام سابق، ولا يخلو من أن يذكر بعده كلام، وهو هنا لإِبطال ما يخامر نفوس المجرم من الودادة، نزل منزلة الكلام لأن الله مطلع عليه أو لإِبطال ما يتفوه به من تمنّي ذلك‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏ويقول الكافر يا ليتني كنت تراباً‏}‏ ‏[‏النبأ‏:‏ 40‏]‏، ألا ترى أنه عبر عن قوله ذلك بالودادة، في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يومئذٍ يودّ الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوّى بهم الأرض‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 42‏]‏ أي يصيرون من ترابها‏.‏

فالتقدير‏:‏ يقال له كلا، أي لا افتداء ولا إنجاء‏.‏

وجملة ‏{‏إنها لظَى‏}‏ استئناف بياني ناشئ عما أفاده حرف ‏{‏كلا‏}‏ من الإِبطال‏.‏ وضمير ‏{‏إنها‏}‏ عائد إلى ما يشاهده المجرم قبالته من مرأى جهنم فأخبر بأن ذلك لظى‏.‏ ولما كان ‏{‏لظى‏}‏ مقترناً بألف التأنيث أنّث الضمير باعتبار تأنيث الخبر واتبع اسمها بأوصاف‏.‏ والمقصود التعريض بأنها أعدت له، أي أنها تحرقك وتنزع شَواك، وقد صرح بما وقع التعريض به في قوله‏:‏ ‏{‏تدعو من أدبر وتولى وجَمع فأوعى،‏}‏ أي تدعوك يا من أدبر عن دعوة التوحيد وتولى عنها ولم يعبأ إلاّ بجمع المال‏.‏

فحرف ‏(‏إنَّ‏)‏ للتوكيد للمعنى التعريضي من الخبر، لا إلى الإِخبار بأن ما يشاهده لظى إذ ليس ذلك بمحل التردد‏.‏ و‏{‏لظى‏}‏ خبر ‏(‏إن‏)‏‏.‏

ويجوز أن يكون ضمير ‏{‏إنها‏}‏ ضمير القصة وهو ضمير الشأن، أي إن قصتك وشأنك لَظى، فتكون ‏{‏لظى‏}‏ مبتدأ‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏نزّاعةٌ‏}‏ بالرفع فهو خبر ثان عن ‏(‏إنَّ‏)‏ إن جعل الضمير ضميراً عائداً إلى النار المشاهدة، أو هو خبر عن ‏{‏لظى‏}‏ إن جعل الضمير ضمير القصة وجُعل ‏{‏لظى‏}‏ مبتدأ‏.‏

وقرأه حفص بالنصب على الحال فيتعين على قراءة حفص أن الضمير ليس ضمير قصة‏.‏ والتعريض هو هو، وحرف ‏(‏إنّ‏)‏ إما للتوكيد متوجهاً إلى المعنى التعريضي كما تقدم، وإما لمجرد الاهتمام بالجملة التي بعده لأن الجمل المفتتحة بضمير الشأن من الأَخبار المهتم بها‏.‏

و ‏{‏لَظى‏}‏‏:‏ علَم منقول من اسم اللهب، جعل علَماً ل «جهنم»، وألفه ألف تأنيث، وأصله‏:‏ لظى بوزن فتًى منوناً اسم جنس للهب النار‏.‏

فنقل اسم الجنس إلى جعله عَلَماً على واحد من جنسه، فقرن بألف تأنيث تنبيهاً بذلك التغيير على نقله إلى العلمية‏.‏

والعرب قد يدخلون تغييراً على الاسم غير العلم إذا نقلوه إلى العلمية كما سموا شُمْس بضم الشين منقولاً من شَمْس بفتح الشين‏.‏ كما قال ابن جني في شرح قول تأبط شراً‏:‏

إني لمهد من ثنائي فقاصدٌ *** به لابننِ عمِّ الصِدِق شُمْسسِ بننِ مالك

وليس من العلَم بالغلبة إذ ليس معرفاً ولا مضافاً، ولاجتماع العلمية والتأنيث فيه كان ممنوعاً من الصرف فلا تقول‏:‏ لظًى بالتنوين إلاّ إذا أردت جنس اللهب، ولا تقول‏:‏ اللَّظَى إلاّ إذا أردت لهباً معيناً، فأما إذا أردت اسم جهنم فتقول لظى بألف التأنيث دون تنوين ودون تعريف‏.‏

والنّزاعة‏:‏ مبالغة في النزع وهو الفصل والقطع‏.‏

والشوى‏:‏ اسم جمع شواة بفتح الشين وتخفيف الواو، وهي العضو غيرُ الرأس مثل اليد والرجل فالجمع باعتبار ما لكل أحد من شوى، وقيل الشواة‏:‏ جلْدة الرأس فالجمع باعتبار كثرة الناس‏.‏

وجملة ‏{‏تدعو‏}‏ إما خبر ثان حسب قراءة ‏{‏نزّاعة‏}‏ بالرفع وإمّا حال على القراءتين‏.‏ والدعاء في قوله‏:‏ ‏{‏تدعو‏}‏ يجوز أن يكون غير حقيقة بأن يعتبر استعارة مكنية، شبهت لظّى في انهيال الناس إليها بضائف لمأدُبة، ورُمز إلى ذلك ب ‏{‏تدعو‏}‏ وذلك على طريقة التهكم‏.‏

ويكون ‏{‏من أدبر وتولى وجمع فأوعى‏}‏ قرينةً، أو تجريداً، أي من أدبر وتولى عن الإِيمان بالله‏.‏ وفيه الطباق لأن الإِدبار والتولي يضادَّاننِ الدعوة في الجملة إذ الشأن أن المدعو يقبل ولا يدبر، ويكون ‏(‏يدعوا‏)‏ مشتقاً من الدُعوة المضمومة الدال، أو أن يشبه إحضار الكفار عندها بدعوتها إياهم للحضور على طريقة التبعية، لأن التشبيه بدعوة المنادي، كقول ذي الرمة يصف الثور الوحشي‏:‏

أمسى بوَهْبَيْننِ مُخْتَاراً لِمَرْتَعه *** من ذي الفوارس تدعُو أنفَه الرِّبَبُ

الرِّبَب بكسر الراء وبموحدتين‏:‏ جمع رِبَّة بكسر الراء وتشديد الموحدة‏:‏ نبات ينبت في الصيف أخضرُ‏.‏

ويجوز أن يكون ‏{‏تدعو‏}‏ مستعملاً حقيقة، و«الذين يَدْعون»‏:‏ هم الملائكة الموكلون بجهنم، وإسنادُ الدعاء إلى جهنم إسناداً مجازياً لأنها مكان الداعين أو لأنها سبب الدعاء، أو جهنم تدعو حقيقة بأن يخلُق الله فيها أصواتاً تنادي الذين تولوا أن يَرِدوا عليها فتلتهمهم‏.‏

و ‏{‏من أدبر وتولى وجمع فأوعى‏}‏ جنس الموصوفين بأنهم أدبروا وتولوا وجمعوا وهم المجرمون الذين يودون أن يفتَدوا من عذاب يومئذٍ‏.‏ وهذه الصفات خصائص المشركين، وهي من آثار دين الشرك التي هي أقوى باعث لهم على إعراضهم عن دعوة الإِسلام‏.‏

وهي ثلاثة‏:‏ الإِدبار والإِعراض، وجمع المال، أي الخشية على أموالهم‏.‏

والإِدبار‏:‏ ترك شيء في جهة الوراء لأن الدّبر هو الظهر، فأدبر‏:‏ جعل شيئاً وراءه بأن لا يعرج عليه أصلاً أو بأن يقبل عليه ثم يفارقَه‏.‏

والتولّي‏:‏ الإِدبار عن شيء والبعد عنه، وأصله مشتق من الوَلاية وهي الملازمة قال تعالى‏:‏

‏{‏فولِّ وجهك شطر المسجد الحرام‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 144‏]‏، ثم قالوا‏:‏ ولَّى عنه، أرادوا اتخذ غيره ولياً، أي ترك وَلايته إلى ولاية غيره مثل ما قالوا‏:‏ رَغب فيه ورغب عنه، فصار «ولي» بمعنى‏:‏ أدبر وأعرض، قال تعالى‏:‏ ‏{‏فأعْرض عمن تولَّى عن ذِكرنا‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 29‏]‏ أي عامِلْه بالإِعراض عنه‏.‏

ففي التولي معنى إيثار غير المتولَّى عنه، ولذلك يكون بين التولّي والإِدبار فرق، وباعتبار ذلك الفرق عُطف و‏{‏تولَّى‏}‏ على ‏{‏أدبر‏}‏ أي تدعو من ترك الحق وتولى عنه إلى الباطل‏.‏ وهذه دقيقة من إعجاز القرآن بأن يكون الإِدبار مراداً به إدبارَ غير تَول، أي إدباراً من أول وهلة، ويكون التولي مراداً به الإِعراض بعد ملابسة، ولذلك يكون الإِدبار مستعاراً لعدم قبول القرآن ونفي استماع دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم وهو حال الذين قال الله فيهم‏:‏ ‏{‏وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 26‏]‏، والتولي مستعار للإِعراض عن القرآن بعد سماعه وللنفور عن دعوة الرسول كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا إن هذا إلاّ أساطير الأولين‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 31‏]‏ وكلا الحالين حال كفر ومحقة للعقاب وهما مجتمعتان في جميع المشركين‏.‏

والمقصود من ذكرهما معاً تفظيع أصحابهما، وعلى هذا الوجه يجوز أن يكون متعلِّق ‏{‏أدبر وتولى‏}‏ متّحداً يتنازعه كلا الفعلين، ويقدر بنحو‏:‏ عن الحق، وفي «الكشاف»‏:‏ أدبر عن الحق وتولى عنه، إذ العبرة باختلاف معنيي الفعلين وإن كان متعلقهما متحداً‏.‏

ويجوز أن يقدر لكل فعل متعلِّقٌ هو أشد مناسبة لمعناه، فقدر البيضاوي‏:‏ أدبر عن الحق وتولى عن الطاعة، أي لم يقبل الحق وهو الإِيمان من أصله، وأعرض عن طاعة الرسول بعد سماع دعوته‏.‏ وعن قتادة عكسه‏:‏ أدبر عن طاعة الله وتولى عن كتاب الله وتبعه الفخر والنيسابوري‏.‏

والجمع والإِيعاء في قوله‏:‏ ‏{‏وجمع فأوعى‏}‏ مرتب ثانيهما على أولهما، فيدل ترتب الثاني على الأول أن مفعول ‏{‏جمع‏}‏ المحذوف هو شيء مما يوعى، أي يُجعل في وعاء‏.‏

والوعاء‏:‏ الظرف، أي جمع المال فكنزه ولم ينفع به المحَاويج، ومنه جاء فعل ‏{‏أوعى‏}‏ إذا شحّ‏.‏ وفي الحديث‏:‏ ‏"‏ ولا تُوعي فيُوعَى عليك ‏"‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏جمَع‏}‏ إشارة إلى الحرص، وفي قوله‏:‏ ‏{‏فأوعى‏}‏ إشارة إلى طول الأمل‏.‏ وعن قتادة ‏{‏جمع فأوعى‏}‏ كان جَمُوعاً للخبيث، وهذا تفسير حسن، أي بأن يُقدَّر ل ‏{‏جمع‏}‏ مفعول يدل عليه السياق، أي وزاد على إدباره وتوليه أنه جمع الخبائث‏.‏ وعليه يكون ‏{‏فأوعى‏}‏ مستعاراً لملازمته مَا فيه من خصال الخبائث واستمراره عليها فكأنها مختزنَة لا يفرط فيها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏19- 21‏]‏

‏{‏إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا ‏(‏19‏)‏ إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا ‏(‏20‏)‏ وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا ‏(‏21‏)‏‏}‏

معترضة بين ‏{‏من أدبر وتولّى وجمع فأوعى‏}‏ ‏[‏المعارج‏:‏ 1718‏]‏ وبين الاستثناء ‏{‏إلاّ المصلّين‏}‏ ‏[‏المعارج‏:‏ 22‏]‏ الخ‏.‏

وهي تذييل لجملةِ ‏{‏وجمع فأوعى‏}‏ تنبيهاً على خصلةٍ تخامر نفوس البشر فتحملهم على الحرص لنيل النافع وعلى الاحتفاظ به خشية نفاده لما فيهم من خلق الهلع‏.‏ وهذا تذييل لَوْم وليس في مَساقه عُذر لمن جمَع فأوعى، ولا هو تعليل لفعله‏.‏

وموقع حرف التوكيد ما تتضمنه الجملة من التعجيب من هذه الخصلة البشرية، فالتأكيد لمجرد الاهتمام بالخبر ولفت الأنظار إليه والتعريضضِ بالحذر منه‏.‏

والمقصود من التذييل هو قوله‏:‏ ‏{‏وإذا مسَّه الخير منوعاً‏}‏ وأما قوله‏:‏ ‏{‏إذا مسه الشر جزوعاً‏}‏ فتمهيد وتتميم لحالتيه‏.‏

فالمراد بالإِنسان‏:‏ جنس الإِنسان لاَ فرد معيّن كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الإِنسان ليطْغَى أن رآه استغنى‏}‏ ‏[‏العلق‏:‏ 67‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏خلق الإِنسان من عَجَل‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 37‏]‏، ونظائر ذلك كثيرة في القرآن‏.‏

وهلوع‏:‏ فعول مثال مبالغة للاتصاف بالهلَع‏.‏

والهلع لفظ غامض من غوامض اللّغة قد تساءل العلماء عنه، قال «الكشاف»‏:‏ «وعن أحمد بن يحيى ‏(‏هو ثعلب‏)‏ قال لي محمد بن عبد الله بن طاهر‏:‏ ما الهلع‏؟‏ فقلت‏:‏ قد فسره الله ولا يكون تفسير أبْيَنَ من تفسيره وهو الذي إذا ناله شر أظهر شدة الجزع، وإذا ناله خير بخل به ومنعه الناس» ا ه‏.‏ فسارت كلمة ثعلب مسيراً أقنع كثيراً من اللغويين عن زيادة الضبط لمعنى الهلع‏.‏ وهي كلمة لا تخلو عن تسامح وقلة تحديد للمعنى لأنه إذا كان قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏إذا مسه الشر جزوعاً وإذا مسه الخير منوعاً‏}‏ تفسيراً لمدلول الجزوع، تعيّن أن يكون مدلول الكلمة معنًى مركباً من معنيي الجملتين لتكون الجملتان تفسيراً له، وظاهر أن المعنيين ليس بينهما تلازم، وكثيراً من أيمة اللغة فسر الهلع بالجزع، أو بشدة الجزع، أو بأفحش الجزع، والجزع‏:‏ أثر من آثار الهلع وليس عينه، فإن ذلك لا يستقيم في قول عمرو بن معد يكرب‏:‏

ما إن جَزِعْتُ ولا هَلِعْتُ *** ولا يَرُدُّ بُكَايَ زَنْدَا

إذ عَطف نفي الهلع على نفي الجزع، ولو كان الهلع هو الجزع لم يحسن العطف، ولو كان الهلع أشد الجزع كان عطف نفيه على نفي الجزع حشواً‏.‏ ولذلك تكلّف المرزوقي في «شرح الحماسة» لمعنى البيت تكلفاً لم يُغن عنه شيئاً قال‏:‏ فكأنه قال‏:‏ ما حَزنت عليه حزناً هَيِّناً قريباً ولا فظيعاً شديداً، وهذا نفي للحزن رأساً كقولك‏:‏ ما رأيت صغيرهم ولا كبيرهم ا ه‏.‏

والذي استخلصته من تتبع استعمالات كلمة الهلع أن الهلع قلة إمساك النفس عند اعتراء ما يُحزنها أو ما يسرها أو عند توقع ذلك والإشفاققِ منه‏.‏ وأما الجزع فمن آثار الهلع، وقد فسر بعض أهل اللغة الهلع بالشره، وبعضهم بالضجر، وبعضهم بالشح، وبعضهم بالجوع، وبعضهم بالجبن عند اللقاء‏.‏

وما ذكرناه في ضبطه يَجمع هذه المعاني ويريك أنها آثار لصفة الهلع‏.‏ ومعنى ‏{‏خُلق هلوعاً‏:‏‏}‏ أن الهلع طبيعة كامنة فيه مع خلقه تظهر عند ابتداء شعوره بالنافع والمضار فهو من طباعه المخلوقة كغيرها من طباعه البشرية، إذ ليس في تَعلُّق الحال بعاملها دلالة على قصر العامل عليها، ولا في اتصاف صاحب الحال بالحال دلالة على أنه لا صفة له غيرها، وقد تكون للشيء الحالةَ وضدها باختلاف الأزمان والدواعي، وبذلك يستقيم تعلق النهي عن حاللٍ مع تَحقق تمكن ضدها من المنهي لأن عليه أن يروض نفسه على مقاومة النقائص وإزالتها عنه، وإِذْ ذَكَر الله الهلع هنا عقب مَذَمَّة الجمع والإِيعاء، فقد أشعر بأن الإِنسان يستطيع أن يكف عن هلعه إذا تدبر في العواقب فيكون في قوله‏:‏ ‏{‏خُلق هلوعاً‏}‏ كناية بالخَلْق عن تمكن ذلك الخُلق منه وغلبته على نفسه‏.‏

والمعنى‏:‏ أن من مقتضى تركيب الإِدراك البشري أن يحدث فيه الهلع‏.‏

بيان ذلك أن تركيب المدارك البشرية رُكِّز بحكمة دقيقة تجعلها قادرة على الفعل والكف، وساعية إلى المُلائم ومعرضة عن المنافر‏.‏ وجعلت فيها قوى متضادة الآثار يتصرف العقل والإِدراك في استخدامها كما يُجب في حدود المقدرة البدنية التي أُعطها النوع والتي أعطيها أفراد النوع، كل ذلك ليَصلُح الإِنسانُ لإِعمار هذا العالم الأرضي الذي جعله الله خليفة فيه ليصلحه إصلاحاً يشمله ويشمل من معه في هذا العالم إعداداً لصلاحيته لإعمار عالم الخلود، ثم جعل له إدراكاً يميز الفرق بين آثار الموجودات وآثار أفعالها بين النافع منها والضار والذي لا نفع فيه ولا ضر‏.‏ وخلق فيه إلهاماً يُحِب النافع ويكرهَ الضار، غير أن اختلاط الوصفين في بعض الأفعال وبعض الذوات قد يُريه الحال النافع منها ولا يريه الحال الضارّ فيبْتغي ما يظنه نافعاً غير شاعر بما في مطاويه من أضرار في العاجل والآجل، أو شاعراً بذلك ولكن شَغَفَه بحصول النفع العاجل يرجِّح عنده تناوله الآن لعدم صبره على تركه مقدِّراً معاذيرَ أو حِيَلاً يقتحم بها ما فيه من ضر آجل‏.‏ وإِن اختلاط القوى الباطنية مع حركات التفكير قد تستر عنْه ضُرَّ الضار ونفعَ النافع فلا يهتدي إلى ما ينبغي سلوكه أو تجنبه، وقد لا تستر عنه ذلك ولكنها تُحدث فيه إيثاراً لاتباع الضار لملاءمة فيه ولو في وقت أو عند عارض، إعراضاً عن اتباع النافع لكلفةٍ في فعله أو منافرة لوجدانه، وذلك من اشتمال تركيب قُواه الباعثة والصارفة وآلاتها التي بها تعمل وتدفع على شيء من التعاكس في أعمالها، فحدثت من هذا التركيب والبديع صلاحية للوفاء بالتدبير الصالح المنوط بعهدة الإنسان، وصلاحيةً لإِفساد ذلك أو بعثرته‏.‏

غير أن الله جعل للإِنسان عقلاً وحكمة إن هو أحسن استعمالهما نَخَلَتْ صفاته، وثقَّفت من قناتِه، ولم يُخْلِه من دعاة إلى الخير يصفون له كيف يَريض جامح نفْسه، وكيف يُوفق بين إدراكه وحِسّه، وهؤلاء هم الرسل والأنبياء والحكماء‏.‏

فإذا أُخبر عن الإِنسان بشدة تلبسه ببعض النقائص وجُعل ذلك في قالب أنه جبل عليه فالمقصود من ذلك‏:‏ إلقاء تَبِعة ذلك عليه لأنه فرط في إِراضة نفسه على ما فيها من جبلة الخير، وأرخى لها العنان إلى غاية الشر، وفرط في نصائح الشرائع والحكماء‏.‏

وإذا أُسند ما يأتيه الإِنسان من الخير إلى الله تعالى فالمقصود‏:‏ التنبيه إلى نعمة الله عليه بخلق القوة الجالبة للخير فيه، ونعمة إرشاده وإيقاظه إلى الحق، كما أشار إلى ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 79‏]‏ عقب قوله‏:‏ ‏{‏قلْ كلٌّ من عند الله فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثاً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 78‏]‏‏.‏ وفي هذا المجال زلت أفهام المعتزلة، وحَلِكَتْ عليهم الأجواء، ففكروا وقدَّروا، وما استطاعوا مخلصاً وما قدَروا‏.‏

واعلم أن كلمة ‏(‏خُلق الإنسان‏)‏ إذا تعلق بها ما ليس من المواد مثل ‏{‏إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمْشاج‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 2‏]‏ بل كان من الأخلاق والغرائز قد يُعنى بها التنبيه على جبلة الإِنسان وأنها تسرع إلى الاعتلاق بمشاعره عند تصرفاته تعريضاً بذلك لوجوب الحذر من غوائلها نحو ‏{‏خلق الإنسان من عَجل‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 37‏]‏ ‏{‏إن الإِنسان خلق هلوعاً‏}‏، وقد ترد للعذر والرفق نحو قوله‏:‏ ‏{‏يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإِنسان ضعيفاً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 28‏]‏، وقد ترد لبيان أصل ما فُطر عليه الإِنسان ومَا طرأ عليه من سوء تصرفه في أفعاله كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لقد خلقنا الإِنسان في أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين‏}‏ ‏[‏التين‏:‏ 45‏]‏ ففعل الخلق من كذا مستعار لكثرة الملابسة‏.‏ قال عروة بن أذَيْنَة‏:‏

إن التي زَعَمَتْ فؤادَك ملّها *** خُلِقَتْ هواك كما خُلِقْتَ هوًى لها

أراد إبطال أن يكون ملَّها بحجة أنها خُلقت حبيبة له كما خُلق محبوبها، أي إن محبته إياها لا تنفك عنه‏.‏

والهلع‏:‏ صفة غير محمودة، فوصف الإِنسان هنا بها لوْم عليه في تقصيره عن التخلق بدفع آثارها، ولذلك ذيل به قوله‏:‏ ‏{‏وجمع فأوعى‏}‏ ‏[‏المعارج‏:‏ 18‏]‏ على كلا معنييه‏.‏

وانتصب ‏{‏جزوعاً‏}‏ على الحال من الضمير المستتر في ‏{‏هلوعاً،‏}‏ أو على البدل بدل اشتمال لأن حال الهلع يشتمل على الجزع عند مس الشر‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏منوعاً‏}‏ عطف على ‏{‏جزوعاً،‏}‏ أي خلق هلوعاً في حال كونه جزوعاً إذا مسه الشر، ومنوعاً إذا مسه الخير‏.‏

و ‏{‏الشر‏}‏‏:‏ الأذى مثل المرض والفقر‏.‏

و ‏{‏الخير‏}‏‏:‏ ما ينفع الإنسان ويلائم رغباته مثل الصحة والغنى‏.‏

والجزوع‏:‏ الشديد الجزع، والجزع‏:‏ ضد الصبر‏.‏

والمنوع‏:‏ الكثير المنع، أي شديد المنع لبذل شيء مما عنده من الخير‏.‏

و ‏{‏إذا‏}‏ في الموضعين ظرفان يتعلقان كل واحد بما اتصل به من وصفي ‏{‏جزوعاً ومنوعاً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏22- 35‏]‏

‏{‏إِلَّا الْمُصَلِّينَ ‏(‏22‏)‏ الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ ‏(‏23‏)‏ وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ ‏(‏24‏)‏ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ‏(‏25‏)‏ وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ ‏(‏26‏)‏ وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ ‏(‏27‏)‏ إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ ‏(‏28‏)‏ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ ‏(‏29‏)‏ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ ‏(‏30‏)‏ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ ‏(‏31‏)‏ وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ ‏(‏32‏)‏ وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ ‏(‏33‏)‏ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ ‏(‏34‏)‏ أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ ‏(‏35‏)‏‏}‏

استثناء منقطع ناشئ عن الوعيد المبتدأ به من قوله‏:‏ ‏{‏يودّ المجرم لو يفتدي من عذاب يومئذٍ‏}‏ ‏[‏المعارج‏:‏ 11‏]‏ الآية‏.‏

فالمعنى على الاستدراك‏.‏ والتقدير‏:‏ لكن المصلين الموصوفين بكَيْت وكَيْتتِ أولئك في جنات مكرمون‏.‏

فجملة ‏{‏أولئك في جنات مكرمون‏}‏ حيث وقعت بعد ‏{‏إلاَّ‏}‏ المنقطعة وهي بمعنى ‏(‏لكنَّ‏)‏ فلها حكم الجملة المخبر بها عن اسم ‏(‏لكنَّ‏)‏ المشددة أو عن المبتدأ الواقع بعد ‏(‏لكنْ‏)‏ المخففة وهو ما حققه الدماميني، وإن كان ابن هشام رأى عدّ الجملة بعد الاستثناء المنقطع في عداد الجمل التي لا محلّ لها من الإِعراب‏.‏

والكلام استئناف بياني لمقابلة أحوال المؤمنين بأحوال الكافرين، ووعدهم بوعيدهم على عادة القرآن في أمثال هذه المقابلة‏.‏

وهذه صفات ثمان هي من شعار المسلمين، فعدل عن إحضارهم بوصف المسلمين إلى تعداد خصال من خصالهم إطناباً في الثناء عليهم لأن مقام الثناء مقام إطناب، وتنبيهاً على أن كلّ صلة من هذه الصلات الثمان هي من أسباب الكون في الجنات‏.‏

وهذه الصفات لا يشاركهم المشركون في معظمها بالمرة، وبعضها قد يتصف به المشركون ولكنهم لا يراعونه حق مراعاته باطراد، وذلك حفظ الأمانات والعهد، فالمشرك يحفظ الأمانة والعهد اتقاء مذمة الخيانة والغدْر، ومع أحلافه دون أعدائِه، والمشرك يشهد بالصدق إذا لم يكن له هوى في الكذب، وإذا خشي أن يوصم بالكذب‏.‏ وقد غدر المشركون بالمسلمين في عدة حوادث، وغدر بعضهم بعضاً، فلو علم المشرك أنه لا يطلع على كذبه وكان له هوى لم يؤد الشهادة‏.‏

ولما كان وصف ‏{‏المصلين‏}‏ غلب على المسلمين كما دل عليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما سلككم في سقَر قالوا لم نك من المصلين‏}‏ الآية ‏[‏المدثر‏:‏ 42، 43‏]‏، أتبع وصف المصلين في الآية هذه بوصف ‏{‏الذين هم على صلاتهم دائمون‏}‏ أي مواظبون على صلاتهم لا يتخلفون عن أدائها ولا يتركونها‏.‏ والدوام على الشيء‏:‏ عدم تركه، وذلك في كل عمل بحسب ما يعتبر دواماً فيه، كما تقرر في أصول الفقه في مسألة إفادة الأمر التكرار‏.‏

وفي إضافة ‏(‏صلاة‏)‏ إلى ضمير ‏{‏المصلين‏}‏ تنويه باختصاصها بهم، وهذا الوصف للمسلمين مُقابل وصف الكافرين في قوله‏:‏ ‏{‏بعذاب واقع للكافرين‏}‏ ‏[‏المعارج‏:‏ 1، 2‏]‏‏.‏

ومجيء الصلة جملةً اسمية دون أن يقال‏:‏ الذين يدومون، لقصد إفادتها الثبات تقوية كمفاد الدوام‏.‏

وإعادة اسم الموصول مع الصِّلات المعطوفة على قوله ‏{‏الذين هم على صلاتهم دائمون‏}‏ لمزيد العناية بأصحاب تلك الصِّلات‏.‏

وتسمية ما يعطونه من أموالهم من الصدقات باسم ‏{‏حق‏}‏ للإِشارة إلى أنهم جعلوا السائل والمحروم كالشركاء لهم في أموالهم من فرط رغبتهم في مواساة إخوانهم إذ لم تكن الصدقة يومئذٍ واجبة ولم تكن الزكاة قد فرضت‏.‏

ومعنى كون الحق معلوماً أنه يعلمه كل واحد منهم ويحسبونه، ويعلمه السائل والمحروم بما اعتاد منهم‏.‏

ومجيء الصلة جملة اسمية لإِفادة ثبات هذه الخصلة فيهم وتمكنها منهم دفعاً لتوهم الشح في بعض الأحيان لما هو معروف بين غالب الناس من معاودة الشحّ للنفوس‏.‏

والسائل‏:‏ هو المستعطي، و‏{‏المحروم‏}‏‏:‏ الذي لا يَسأل الناس تعففاً مع احتياجه فلا يتفطن له كثير من الناس فيبقى كالمحروم‏.‏

وأصل المحروم‏:‏ الممنوع من مرغوبه، وتقدم في سورة الذاريات ‏(‏19‏)‏ في قوله‏:‏ ‏{‏وفي أموالهم حق للسائل والمحروم‏.‏ وهذه الصفة للمؤمنين مضادة صفة الكافرين المتقدمة في قوله‏:‏ وجمَع فأوعَى‏}‏ ‏[‏المعارج‏:‏ 18‏]‏‏.‏

والتصديق بيوم الدين هو الإِيمان بوقوع البعث والجزاءِ، و‏{‏الدينُ‏}‏‏:‏ الجزاء‏.‏ وهذا الوصف مقابل وصف الكافرين بقوله‏:‏ ‏{‏إنهم يرونه بعيداً‏}‏ ‏[‏المعارج‏:‏ 6‏]‏‏.‏

ولما كان التصديق من عمل القلب لم يتصور أن يكون فيه تفاوت أُتي بالجملة الفعلية على الأصل في صلة الموصول، وأوثر فيها الفعل المضارع لدلالته على الاستمرار‏.‏

ووصفهم بأنهم ‏{‏من عذاب ربهم مشفقون‏}‏ مقابل قوله في حق الكافرين ‏{‏سال سائل بعذاب واقع للكافرين‏}‏ ‏[‏المعارج‏:‏ 1، 2‏]‏ لأن سؤالهم سؤال مستخف بذلك ومحيله‏.‏

والإِشفاق‏:‏ توقع حصول المكروه وأخذُ الحذر منه‏.‏

وصوغ الصلة بالجملة الاسمية لتحقيق وثبات اتصافهم بهذا الإِشفاق لأنه من المغيبات، فمن شأن كثير من الناس التردد فيه‏.‏

وجملة ‏{‏إن عذاب ربهم غير مأمون‏}‏ معترضة، أي غير مأمون لهم، وهذا تعريض بزعم المشركين الأمْنَ منه إذ قالوا‏:‏ ‏{‏وما نحن بمعذبين‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 138‏]‏‏.‏ ووصفُهم بأنهم ‏{‏لفروجهم حافظون‏}‏ مقابل قوله في تهويل حال المشركين يوم الجزاء بقوله‏:‏ ‏{‏ولا يَسْأل حميم حميماً‏}‏ ‏[‏المعارج‏:‏ 10‏]‏ إذ أخص الأحِمَّاء بالرجل زوجه، فقصد التعريض بالمشركين بأن هذا الهول خاص بهم بخلاف المسلمين فإنهم هم وأزواجهم يحبرون لأنهم اتقوا الله في العفة عن غير الأزواج، قال تعالى‏:‏ ‏{‏الأخلاَّءُ يومئذٍ بعضهم لبعض عدوّ إلاّ المتقين‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 67‏]‏‏.‏

وتقدم نظير هذا في سورة المؤمنين، أي ليس في المسلمين سفاح ولا زنا ولا مخالّة ولا بغاء، ولذلك عقب بالتفريع بقوله‏:‏ ‏{‏فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون‏.‏

والعادي‏:‏ المفسد، أي هم الذين أفسدوا فاختلطت أنسابهم وتطرقت الشكوك إلى حصانة نسائهم، ودخلت الفوضى في نظم عائلاتهم، ونشأت بينهم الإِحن من الغيرة‏.‏

وذكرُ رعي الأمانات والعهد لمناسبة وصف ما يودّ الكافر يوم الجزاء أن يفتديه من العذاب بفصيلته التي تؤويه فيذهب منه رعي العهود التي يجب الوفاء بها للقبيلة‏.‏ وحسبك من تشويه حاله أنه قد نكث العهود التي كانت عليه لقومه من الدفاع عن حقيقتهم بنفسه وكان يفديهم بنفسه، والمسلم لما كان يرعى العهد بما يمليه عليه دينه جازاه الله بأن دفع عنه خزي ودادة فدائه نفسه بمواليه وأهل عهده‏.‏

والقول في اسمية الصلة كالقول في الذي قبله‏.‏

والرعي‏:‏ الحفظ والحراسة‏.‏ وأصله رعي الغنم والإِبل‏.‏

وقرأ الجمهور لأماناتهم‏}‏ بصيغة الجمع‏.‏ وقرأه ابن كثير ‏{‏لأمانتهم‏}‏ بالإِفراد والمراد الجنس‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏والذين هم بشهادتهم قائمون‏}‏ ذكر لمناسبة ذكر رعي الأمانات إذ الشهادة من جملة الأمانات لأن حق المشهود له وديعة في حفظ الشاهد فإذا أدى شهادته فكأنه أدى أمانة لصاحب الحق المشهود له كانت في حفظ الشاهد‏.‏

ولذلك كان أداء الشهادة إذا طولب به الشاهد واجباً عليه، قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولا يأب الشهداء إذا ما دُعوا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 282‏]‏‏.‏

والقيام بالشهادة‏:‏ الاهتمام بها وحفظها إلى أن تؤدى، وهذا قيام مجازي كما تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويقيمون الصلاة‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏3‏)‏‏.‏

وباء بشهادتهم‏}‏ للمصاحبة، أي يقومون مصاحبين للشهادة ويصير معنى الباء في الاستعارة معنى التعدية‏.‏

فذكر القيام بالشهادة إتمام لخصال أهل الإِسلام فلا يتطلب له مقابل من خصال أهل الشرك المذكورة فيما تقدم‏.‏

والقول في اسمية جملة الصلة للغرض الذي تقدم لأن أداء الشهادة يشق على الناس إذ قد يكون المشهود عليه قريباً أو صديقاً، وقد تثير الشهادة على المرء إِحْنَة منه وعداوة‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏بشهادتهم‏}‏ بصيغة الإِفراد، وهو اسم جنس يعم جميع الشهادات التي تحملوها‏.‏ وقرأ حفص ويعقوب ‏{‏بشهاداتهم‏}‏ بصيغة الجمع‏.‏ وذلك على اعتبار جمع المضاف إليه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏والذين هم على صلاتهم يحافظون‏}‏ ثناء عليهم بعنايتهم بالصلاة من أن يعتريها شيء يخل بكمالها، لأن مادة المفاعلة هنا للمبالغة في الحفظ مثل‏:‏ عافاه الله، وقاتله الله، فالمحافظة راجعة إلى استكمال أركان الصلاة وشروطها وأوقاتها‏.‏ وإيثار الفعل المضارع لإِفادة تجدد ذلك الحفاظ وعدم التهاون به، وبذلك تعلم أن هذه الجملة ليست مجرد تأكيد لجملة ‏{‏الذين هم على صلاتهم دائمون‏}‏ بل فيها زيادة معنى مع حصول الغرض من التأكيد بإعادة ما يفيد عنايتهم بالصلاة في كلتا الجملتين‏.‏

وفي الأخبار النبوية أخبار كثيرة عن فضيلة الصلاة، وأن الصلوات تكفر الذنوب كحديث «مَا يُدريكم ما بَلَغتْ به صلاته»

وقد حصل بين أخرى هذه الصلات وبين أولاها محسن رد العجز على الصدر‏.‏

وتقديم المسند إليه على المسند الفعلي في قوله‏:‏ ‏{‏والذين هم على صلاتهم يحافظون‏}‏ يفيد تقوية الخبر مع إفادة التجدد من الفعل المضارع‏.‏

ولما أُجريت عليهم هذه الصفات الجليلة أخبر عن جزائهم عليها بأنهم مُكرمون في الجنة‏.‏

وجيء باسم الإشارة للتنبيه على أنهم استحقوا ما بعد اسم الإشارة من أجْل ما سبَق قبل اسم الإشارة كما تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أولئك على هدى من ربهم‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏5‏)‏‏.‏

والإِكرام‏:‏ التعظيم وحسن اللقاء، أي هم مع جزائهم بنعيم الجنات يكرمون بحسن اللقاء والثناء، قال تعالى‏:‏ ‏{‏والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 23، 24‏]‏ وقال ‏{‏ورضوان من الله أكبر‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 72‏]‏‏.‏

وهذا يقتضي أن يكون قوله‏:‏ ‏{‏في جنات‏}‏ خبراً عن اسم الإِشارة وقوله ‏{‏مكرمون‏}‏ خبراً ثانياً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏36- 38‏]‏

‏{‏فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ ‏(‏36‏)‏ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ ‏(‏37‏)‏ أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ ‏(‏38‏)‏‏}‏

تفهام إنكاري وتعجيبي من تجمع المشركين إلى النبي صلى الله عليه وسلم مستهزئين بما يسمعون من وعد المؤمنين بالجنة ووعيد المشركين بعذاب جهنم‏.‏

فرع ذلك على ما أفاده في قوله‏:‏ ‏{‏أولئك جنات مكرمون‏}‏ ‏[‏المعارج‏:‏ 35‏]‏‏.‏

والمعنى‏:‏ أن الذين كفروا لا مطمع لهم في دخول الجنة فماذا يحاولون بتجمعهم حولك بملامح استهزائهم‏.‏

وهذا وإن كان خطاباً للنبيء صلى الله عليه وسلم فالمقصود به إبلاغه إليهم فيما يتلو عليهم من القرآن فهو موجه إليهم في المعنى كما يدل عليه تنهيته بحرف الردع فهو لا يناسب أن يكون إعلاماً للنبيء صلى الله عليه وسلم لذلك لأنه شيء مقرر في علمه‏.‏

ومعنى ‏{‏فما للذين كفروا‏}‏‏:‏ أيُّ شيء ثبت للذين كفروا في حال كونهم عندك، أو في حال إهطاعهم إليك‏.‏

وقد تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قالوا وما لنا أن لا نقاتل في سبيل الله وقد أُخرجنا من ديارنا‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏246‏)‏‏.‏ وتركيب ما لَه لا يخلو من حال مفردة، أو جملة بعد الاستفهام تكون هي مصبَّ الاستفهام‏.‏ فيجوز أن تكون الحال المتوجه إليها الاستفهام هنا الظرف، أي قِبَلَك‏}‏ فيكون ظرفاً مستقراً وصاحب الحال هو ‏{‏للذين كفروا‏}‏‏.‏ ويجوز أن تكون ‏{‏مهطعين،‏}‏ فيكون ‏{‏قِبَلَك‏}‏ ظرفاً لغْواً متعلقاً ب ‏{‏مهطعين‏.‏‏}‏ وعلى كلا الوجهين هما مثار التعجيب من حالهم فأيهما جعل محل التعجيب أجري الآخَر المُجرى اللائق به في التركيب‏.‏ وكتب في المصحف اللام الداخلة على ‏{‏الذين‏}‏ مفصولة عن مدخولها وهو رسم نادر‏.‏

والإِهطاع‏:‏ مد العنق عند السير كما تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مهطعين إلى الداع‏}‏ في سورة القمر ‏(‏8‏)‏‏.‏

قال الواحدي والبغوي وابن عطية وصاحب الكشاف‏}‏‏:‏ كان المشركون يجتمعون حول النبي صلى الله عليه وسلم ويستمعون كلامه ويكذبونه ويستهزئون بالمؤمنين، ويقولون‏:‏ لئن دخل هؤلاء الجنة كما يقول محمد فلندخلنها قبلهم وليكونن لنا فيها أكثر مما لهم‏.‏ فأنزل الله هذه الآية‏.‏

وقِبَل‏:‏ اسم بمعنى ‏(‏عند‏)‏‏.‏

وتقديم الظرف على ‏{‏مهطعين‏}‏ للاهتمام به لأن التعجيب من حالهم في حضرة النبي صلى الله عليه وسلم أقوى لما فيهم من الوقاحة‏.‏

وموقع قوله‏:‏ ‏{‏عن اليمين وعن الشمال‏}‏ مثل موقع ‏{‏قبلك‏}‏ وموقع ‏{‏مهطعين‏.‏‏}‏ والمقصود‏:‏ كثرة الجهات، أي واردين إليك‏.‏

والتعريف في ‏{‏اليمين‏}‏ و‏{‏الشمال‏}‏ تعريف الجنس أو الألف واللام عوض عن المضاف إليه‏.‏

والمقصود من ذكر اليمين والشمال‏:‏ الإِحاطة بالجهات فاكتفي بذكر اليمين والشمال، لأنهما الجهتان اللتان يغلب حلولهما، ومثله قول قَطَريّ بن الفُجَاءَةِ‏:‏

فلقد أراني للرماح دَريئَةً *** مِن عَنْ يميني مَرّة وأَمامي

يريد‏:‏ من كل جهة‏.‏

و ‏{‏عزِين‏}‏ حال من ‏{‏الذين كفروا‏}‏‏.‏ و‏{‏عزين‏}‏‏:‏ جمع عِزَة بتخفيف الزاي، وهي الفِرقة من النّاس، اسم بوزن فِعْلَة‏.‏ وأصله عِزوة بوزن كِسوة، وليست بوزن عِدَة‏.‏ وجرى جمع عِزة على الإِلحاق بجمع المذكر السالم على غير قياس وهو من باب سَنَة من كل اسم ثلاثي حذفت لاَمه وعُوض عنها هاء التأنيث ولم يكسّر مثل عِضَة ‏(‏للقطعة‏)‏‏.‏

وهذا التركيب في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فما للذين كفروا قِبَلك مهطعين‏}‏ إلى قوله ‏{‏جنة نعيم‏}‏ يجوز أن يكون استعارة تمثيلية شبه حالهم في إسراعهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم بحال من يُظن بهم الاجتماع لطلب الهدى والتحصيل على المغفرة ليدخلوا الجنة لأن الشأن أن لا يلتف حول النبي صلى الله عليه وسلم إلاّ طالبوا الاهتداء بهديه‏.‏

والاستفهام على هذا مستعمل في أصل معناه لأن التمثيلية تجري في مجموع الكلام مع بقاء كلماته على حقائقها‏.‏

ويجوز أن يكون الكلام استفهاماً مستعملاً في التعجيب من حال إسراعهم ثم تكذيبهم واستهزائهم‏.‏

وجملة ‏{‏أيطمع كل امرئ منهم أن يُدخل جنة نعيم‏}‏ بدل اشتمال عن جملة ‏{‏فما للذين كفروا قِبلك مهطعين‏}‏ الآية، لأنّ التفافهم حول النبي صلى الله عليه وسلم شأنه أن يكون لطلب الهدى والنجاة فشبه حالهم بحال طالبي النجاة والهدى فأُورد استفهام عليه‏.‏

وحكى المفسرون أن المشركين قالوا مستهزئين‏:‏ نحن ندخل الجنة قبل المسلمين، فجاز أن يكون الاستفهام إنكاراً لتظاهرهم بالطمع في الجنة بحمل استهزائهم على خلاف مرادهم على طريقة الأسلوب الحكيم، أو بالتعبير بفعل ‏{‏يَطمع‏}‏ عن التظاهر بالطمع كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يحذر المنافقون أن تُنزل عليهم سُورة تنبئهم بما في قلوبهم‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 64‏]‏ أي يتظاهرون بأنهم يحذرون‏.‏

وأُسند الطمع إلى ‏{‏كل امرئ منهم‏}‏ دون أن يقال‏:‏ أيطمعون أن يدخلوا الجنة، تصويراً لحالهم بأنها حال جماعة يريد كل واحد منهم أن يدخل الجنة لتساويهم، يرون أنفسهم سواء في ذلك، ففي قوله‏:‏ ‏{‏كل امرئ منهم‏}‏ تقوية التهكم بهم‏.‏

ثم بني على التهكم ما يبطل ما فرض لحالهم بما بني عليه التمثيل التهكمي بكلمة الردع وهي ‏{‏كلا‏}‏ أي لا يكون ذلك‏.‏ وذلك انتقال من المجاز إلى الحقيقة ومن التهكم بهم إلى توبيخهم دفعاً لتوهم من يتوهم أن الكلام السابق لم يكن تهكماً‏.‏

وهُنا تمّ الكلام على إثبات الجزاء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏39- 41‏]‏

‏{‏كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ ‏(‏39‏)‏ فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ ‏(‏40‏)‏ عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ ‏(‏41‏)‏‏}‏

كلام مستأنف استئنافاً ابتدائياً للانتقال من إثبات الجزاء إلى الاحتجاج على إمكان البعث إبطالاً لشبهتهم الباعثة على إنكاره، وهو الإِنكار الذي ذكر إجمالاً بقوله المتقدم آنفاً ‏{‏إنهم يَرونه بعيداً ونَراه قريباً‏}‏ ‏[‏المعارج‏:‏ 6، 7‏]‏ فاحتج عليهم بالنشأة الأولى، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد علمتم النشأة الأولى فلولا تذكرون‏}‏ ‏[‏الواقعة‏:‏ 62‏]‏ فالخبر بقوله‏:‏ ‏{‏إنّا خلقناهم مما يعلمون‏}‏ مستعمل في لازم معناه وهو إثبات إعادة خلْقهم بعد فنائهم‏.‏

فهذا من تمام الخطاب الموجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم والمقصود منه أن يبلغ إلى أسماع المشركين كما تقدم آنفاً‏.‏

والمعنى‏:‏ أنا خلقنا الإنسان من نطفة حتى صارت إنساناً عاقلاً مناظراً فكذلك نعيد خلقه بكيفية لا يعلمونها‏.‏

فما صْدَقُ ‏(‏ما يعلمون‏)‏ هو ما يعلمه كل أحد من أنه كون في بطن أمه من نطفة وعلقة، ولكنهم علموا هذه النشاة الأولى فألهاهم التعوّد بها عن التدبر في دلالتها على إمكان إعادة المكوَّن منها بتكوين آخر‏.‏

وعُدِل عن أن يقال‏:‏ إنا خلقناهم من نطفة، كما قال في آيات أخرى ‏{‏إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 2‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏أو لم يرَ الإِنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين وضرب لنا مثلاً ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 77، 78‏]‏ وغيرها من آيات كثيرة، عدل عن ذلك إلى الموصول في قوله‏:‏ ‏{‏مما يعلمون‏}‏ توجيهاً للتهكم بهم إذ جادلوا وعاندوا، وعِلْمُ ما جادلوا فيه قائم بأنفسهم وهم لا يشعرون، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولقد علمتم النشأة الأولى فلولا تذَّكَّرون‏}‏ ‏[‏الواقعة‏:‏ 62‏]‏‏.‏ وكان في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مما يعلمون‏}‏ إيماء إلى أنهم يُخْلَقون الخلقَ الثاني ‏{‏مما لا يعلمون كما قال في الآية الأخرى سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 36‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏وننشئكم فيما لا تعلمون‏}‏ ‏[‏الواقعة‏:‏ 61‏]‏ فكان في الخَلْق الأول سِرٌّ لا يعلمونه‏.‏

ومجيء ‏{‏إنا خلقناهم‏}‏ موكداً بحرف التأكيد لتنزيلهم فيما صدر منهم من الشبهة الباطلة منزلة من لا يعلمون أنهم خُلقوا من نطفة وكانوا معدومين، فكيف أحالوا إعادة خلقهم بعد أن عدم بعض أجزائهم وبقي بعضها ثم أتبع هذه الكناية عن إمكان إعادة الخلق بالتصريح بذلك بقوله‏:‏ ‏{‏فلا أقسم بربّ المشارق والمغارب إنا لقادرون على أن نبدِّل خيراً منهم‏}‏ مفرعاً على قوله‏:‏ ‏{‏إنا خلقناهم مما يعلمون‏}‏ والتقدير‏:‏ فإنا لقادرون الآية‏.‏

وجملة ‏(‏لا أقسم برب المشارق‏)‏ الخ معترضة بين الفاء وما عطفته‏.‏

والقَسَم بالله بعنوان ربوبيته المشارقَ والمغارب معناه‏:‏ ربوبيته العالم كله لأن العالم منحصر في جهات شروق الشمس وغروبها‏.‏

وجمع ‏{‏المشارق والمغارب‏}‏ باعتبار تعدد مطالع الشمس ومغاربها في فصول السنة فإن ذلك مظهر عجيب من مظاهر القدرة الإلهية والحكمةِ الربانية لدلالته على عظيم صنع الله من حيث إنه دال على الحركات الحافة بالشمس التي هي من عظيم المخلوقات، ولذلك لم يذكر في القرآن قسَم بجهة غير المشرق والمغرب دون الشمال والجنوب مع أن الشمال والجنوب جهتان مشهورتان عند العرب، أقسم الله به على سُنة أقسام القرآن‏.‏

وفي إيثار ‏{‏المشارق والمغارب‏}‏ بالقسم بربها رَعي لمناسبة طلوع الشمس بعد غروبها لتمثيل الإِحياءِ بعد الموت‏.‏

وتقدم القول في دخول حرف النفي مع ‏(‏لا أقسم‏)‏ عند قوله‏:‏ ‏{‏فلا أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون‏}‏ في سورة الحاقة ‏(‏38، 39‏)‏، وقوله‏:‏ ‏{‏فلا أقسم بمواقع النجوم‏}‏ في سورة الواقعة ‏(‏75‏)‏‏.‏

وقوله‏:‏ على أن نبدل خيراً منهم‏}‏ يحتمل معنيين‏:‏ أولهما وهو المناسب للسياق أن يكون المعنى على أن نبدلهم خيراً منهم، أي نبدل ذواتهم خلقاً خيراً من خلْقهم الذي هم عليه اليوم‏.‏ والخيرية في الإِتقان والسرعة ونحوهما وإنما كان خلقاً أتقن من النشأة الأولى لأنه خلق مناسب لعالم الخلود، وكان الخلْق الأول مناسباً لعالم التغير والفناء، وعلى هذا الوجه يكون ‏{‏نُبدِّلَ‏}‏ مضمناً معنى‏:‏ نعوّض، ويكون المفعول الأول ل ‏{‏نبدل‏}‏ ضميراً مثل ضمير ‏{‏منهم‏}‏ أي نبدلهم والمفعولُ الثاني ‏{‏خيراً منهم‏}‏‏.‏

و ‏(‏مِن‏)‏ تفضيلية، أي خيراً في الخلقة، والتفضيلُ باعتبار اختلاف زمانَي الخلْق الأول والخلق الثاني، أو اختلاففِ عالميهما‏.‏

والمعنى الثاني‏:‏ أنْ نبدل هؤلاء بخير منهم، أي بأمَّة خير منهم، والخيرية في الإيمان، فيكون ‏{‏نبدل‏}‏ على أصل معناه، ويكون مفعوله محذوفاً مثل ما في المعنى الأول، ويكون ‏{‏خيراً‏}‏ منصوباً على نزع الخافض وهو باء البدلية كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 61‏]‏، ويكون هذا تهديداً لهم بأنْ سيستأصلهم ويأتيَ بقوم آخرين كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إن يشا يذهبكم ويأتتِ بخلق جديد‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 16‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 38‏]‏‏.‏

وفي هذا تثبيت للنبيء صلى الله عليه وسلم وتذكير بأن الله عالم بحالهم‏.‏

وذيل بقوله‏:‏ ‏{‏وما نحن بمسبوقين،‏}‏ والمسبوق مستعار للمغلوب عن أمره، شبه بالمسبوق في الحلبة، أو بالمسبوق في السير، وقد تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا ساء ما يحكمون‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 4‏]‏، ومنه قول مرة بن عَدَّاء الفقعسي‏:‏

كأنكَ لم تُسبَق من الدهر مرة *** إذا أنت أدركتَ الذي كنتَ تطلُب

يريد‏:‏ كأنك لم تُغلب إذا تداركت أمرك وأدركت طلبتك‏.‏

و ‏{‏على أن نبدل خيراً منهم‏}‏ مُتعلق ب ‏{‏مسبوقين،‏}‏ أي ما نحن بعاجزين على ذلك التبديل بأمثالكم كما قال في سورة الواقعة ‏(‏61‏)‏ إنا لقادرون ‏{‏على أن نبدل أمثالكم‏.‏‏}‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏42- 44‏]‏

‏{‏فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ ‏(‏42‏)‏ يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ ‏(‏43‏)‏ خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ ‏(‏44‏)‏‏}‏

تفريع على ما تضمنه قوله‏:‏ ‏{‏فما للذين كفروا قبلك مهطعين‏}‏ ‏[‏المعارج‏:‏ 36‏]‏ من إرادتهم بفعلهم ذلك وقولهم‏:‏ إننا ندخل الجنة، الاستهزاءَ بالقرآن والنبي صلى الله عليه وسلم وبعدَ إبطاله إجمالاً وتفصيلاً فرع عن ذلك أمر الله رسوله بتركهم للعِلم بأنهم لم يُجْدِ فيهم الهَديُ والاستدلال وأنهم مصرون على العناد والمناواة‏.‏

ومعنى الأمر بالترك في قوله‏:‏ ‏{‏فذرهم‏}‏ أنه أمر بترك ما أهمّ النبي صلى الله عليه وسلم من عنادهم وإصرارهم على الكفر مع وضوح الحجج على إثبات البعث ولما كان أكبر أسباب إعراضهم وإصرارهم على كفرهم هو خوضهم ولعبهم كني به عن الإِعراض بقوله‏:‏ ‏{‏يخوضوا ويلعبوا‏.‏

فجملة يخوضوا‏}‏ وجملة ‏{‏ويلعبوا‏}‏ حالان من الضمير الظاهر في قوله‏:‏ ‏{‏فذرهم‏}‏‏.‏ وتلك الحال قيد للأمر في قوله‏:‏ ‏{‏فذرهم‏}‏‏.‏ والتقدير‏:‏ فذر خوضهم ولعبهم ولا تحزن لعنادهم وإصرارهم‏.‏

وتعدية فعل ‏(‏ذَرْ‏)‏ إلى ضميرهم من قبيل توجه الفعل إلى الذات‏.‏ والمراد توجهه إلى بعض أحوالها التي لها اختصاص بذلك الفعل، مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏حُرّمت عليكم الميتة‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 3‏]‏ أي حرم عليكم أكلُها، وقوله‏:‏ ‏{‏وأن تجمعوا بين الأختين‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 23‏]‏ أي أن تجمعُوهما معاً في عصمة نكاححِ والاعتماد في هذا على قرينة السياق كما في الآيتين المذكورتين وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فذرهم حتى يلاقوا يومهم الذي فيه يصعقون‏}‏ في سورة الطور ‏(‏45‏)‏، أو على ذكر ما يدل على حالة خاصة مثل قوله‏:‏ يخوضوا ويلعبوا‏}‏ في هذه الآية، فقد يكون المقدر مختلفاً كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 90‏]‏ إذ التقدير‏:‏ فاجتنبوا شرب الخمر والتقامر بالميسر وعبادة الأَنصاب والاستقسام بالأزلام‏.‏‏}‏

وهذا الاستعمال هو المعنون في أصول الفقه بإضافة التحليل والتحريم إلى الأعيان، أو إسناد التحريم والتحليل إلى الأعيان، ولوضوح دلالة ذلك على المراد لم يَعُدّه جمهور علماء الأصول من قبيل المجمل خلافاً للكرخي وبعض الشافعية‏.‏

وقد يتوسل من الأمر بالترك إلى الكناية عن التحقير وقلة الاكتراث كقول كَبْشَةَ أختتِ عَمرو بن معديكرب تُلْهَب أخاها عمراً للأخذ بثأر أخيه عبد الله وكان قد قتل‏:‏

ودَعْ عنك عَمْراً اِنَّ عَمْراً مُسالم *** وهل بَطْنُ عَمرو غَيْرُ شِبْرٍ لمَطْعَم

وما في هذه الآية من ذلك الأسلوب أي لا تكترث بهم فإنهم دون أن تصرف همتك في شأنهم مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلا تذهب نفسك عليهم حسرات‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 8‏]‏‏.‏

وبهذا تعلم أن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فذرهم‏}‏ لا علاقة له بحكم القتال، ولا هو من الموادعة ولا هو منسوخ بآيات السيف كما توهمه بعض المفسرين‏.‏

والخوض‏:‏ الكلام الكثير، والمراد خوضهم في القرآن وشأن النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين‏.‏

واللعب‏:‏ الهزل والهُزْء وهو لعبهم في تلقي الدعوة الإِسلامية وخروجهم عن حدود التعقل والجِدّ في الأَمر لاستطارة رشدهم حسداً وغيظاً وحنقاً‏.‏

وجزم ‏{‏يخوضوا ويلعبوا‏}‏ في جواب الأمر للمبالغة في ارتباط خوضهم ولعبهم بقلة الاكتراث بهم إذ مقتضى جزمه في الجواب أن يقدر‏:‏ أن تذرهم يَخوضوا ويلعبوا، أي يستمروا في خوضهم ولعبهم وذلك لا يضيرك، ومثل هذا الجزم كثير نحو ‏{‏قُل للذين ءامنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله ليَجْزِيَ قوماً بما كانوا يكسبون‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 14‏]‏ ونحو ‏{‏وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 53‏]‏‏.‏ وبعض المفسرين والنحويين يجعل أمثاله مجزوماً بلام الأمر مقدرة على أن ذلك مقول القول وهو يفيت نكتة المبالغة‏.‏

و ‏{‏حتى‏}‏ متعلقة ب ‏(‏ذرهم‏)‏ لما فيه من معنى، أمهلهم وانتظرهم، فإن اليوم الذي وعدوه هو يوم النشور حين يجازَوْن على استهزائهم وكفرهم، فلا يكون غاية ل ‏{‏يخوضوا ويلعبوا‏}‏ والغاية هنا كناية عن دوام تركهم‏.‏

وإضافة ‏(‏يوم‏)‏ إلى ضميرهم لأدنى ملابسة‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏يلاقوا‏}‏ بألف بعد اللام من الملاقاة‏.‏ وقرأه أبو جعفر بدون ألف من اللقاء‏.‏

واللقاء‏:‏ مجاز على كل تقدير‏:‏ فعلى قراءة الجمهور هو مجاز من جهتين لأن اليوم لا يَلقى ولا يُلقى‏.‏ وعلى قراءة أبي جعفر هو مجاز من جهة واحدة لأن اللقاء إنما يقع بين الذَّوات‏.‏

و ‏{‏يوم يخرجون من الأجداث‏}‏ بدل من ‏{‏يومَهم‏}‏ ليس ظرفاً‏.‏

والخروج‏:‏ بروز أجسادهم من الأرض‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏يخرجون‏}‏ بفتح التحتية على البناء للفاعل‏.‏ وقرأه أبو بكر عن عاصم بضمها على البناء للمفعول‏.‏

و ‏{‏الأجداث‏}‏‏:‏ جمع جدث بفتحتين وهو القبر، والقبر‏:‏ حفير يجعل لمواراة الميت‏.‏

وضمير ‏{‏يخرجون‏}‏ عائد إلى المشركين المخبر عنه بالأخبار السابقة‏.‏ وجميعهم قد دفنوا في قبور أو وضعوا في قليب بدر‏.‏

والنَّصْب بفتح فسكون‏:‏ الصنم، ويقال‏:‏ نُصُب بضمتين، ووجه تسميته نصباً أنه ينصب للعبادة، قال الأعشى‏:‏

وذا النُصُبَ المنصوبَ لا تنسكنه *** ولا تعبد الشيطان والله فاعبدا

و ‏{‏يوفِضون‏}‏ مضارع أوفض، إذا أسرع وعدا في سيره، أي كأنهم ذاهبون إلى صنم، شُبه إسراعهم يوم القيامة إلى الحشر بإسراعهم في الدنيا إلى الأصنام لزيارتها لأن لهذا الإِسراع اختصاصاً بهم، وفي هذا التشبيه إدماج لتفظيع حالهم في عبادة الأصنام وإيماء إلى أن إسراعهم يوم القيامة إسراع دعَ، ودفع جزاء على إسراعهم للأصنام‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏نَصْب‏}‏ بفتح النون وسكون الصاد‏.‏ وقرأه ابن عامر وحفص عن عاصم بضم النون والصاد‏.‏

وخشوع الأبصار استعارة للنظر إلى أسفل من الذل، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ينظرون من طرف خفي‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 45‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏خُشَّعاً أبصارهم يخرجون من الأجداث كأنهم جراد منتشر‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 7‏]‏‏.‏ وأصل الخشوع‏:‏ ظهور الطاعة أو المخافة على الإِنسان‏.‏

والرهق‏:‏ الغشيان، أي التغطية بساتر، وهو استعارة هنا لأن الذلة لا تغشى‏.‏

وجملة ‏{‏ذلك اليوم الذي كانوا يوعدون‏}‏ فذلكة لما تضمنته السورة في أول أغراضها من قوله‏:‏ ‏{‏بعذاب واقع إلى قوله‏:‏ ‏{‏في يوم كان مقداره‏}‏ الآيات ‏[‏المعارج‏:‏ 1 4‏]‏، وهي مفيدة مع ذلك تأكيد جملة ‏{‏حتى يلاَقوا يومهم الذي يوعدون‏.‏‏}‏ وفيها مُحسِّن رد العجز على الصدر‏.‏

سورة نوح

تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

‏{‏إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏1‏)‏‏}‏

افتتاح الكلام بالتوكيد للاهتمام بالخبر إذ ليس المقام لرد إنكار منكر، ولا دفع شك عن متردد في هذا الكلام‏.‏ وكثيراً ما يَفتتح بلغاء العرب أول الكلام بحرف التوكيد لهذا الغرض وربما جعلوا ‏(‏إن‏)‏ دَاخلةً على ضمير الشأن في نحو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنه من سليمان وإِنه باسم الله الرحمان الرحيم * أن لا تعلوا علي‏}‏ الآية ‏[‏النمل‏:‏ 30، 31‏]‏‏.‏

وذكْر نوح عليه السلام مضى في سورة آل عمران‏.‏ وتقدم أن هذا الاسم غير عربي، وأنه غير مشتق من مادة النّوح‏.‏

و ‏{‏أن أنذر قومك‏}‏ إلى آخره هو مضمون ما أرسل به نوح إلى قومه، ف ‏{‏أنْ‏}‏ تفسيرية لأنها وقعت بعد ‏{‏أرسلنا‏}‏‏.‏ وفيه معنى القول دون حروفه‏.‏ ومعنى ‏{‏من قِبْل أن يأتيهم عذاب أليم‏}‏ أنه يخوفهم غضب الله تعالى عليهم إذ عبدوا الأصنام ولم يتقوا الله ولم يطيعوا ما جاءهم به رسوله، فأمره الله أن ينذرهم عذاباً يأتيهم من الله ليكون إنذاره مقدّماً على حلول العذاب‏.‏ وهذا يقتضي أنه أُمر بأن يعلمهم بهذا العذاب، وأن الله وقَّته بمدة بقائهم على الشرك بعد إبلاغ نوح إليهم ما أُرسل به في مدة يقع الإِبلاغ في مثلها، فحذف متعلّق فعل ‏{‏أنذر‏}‏ لدلالة ما يأتي بعده من قوله‏:‏ ‏{‏أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون‏}‏ ‏[‏نوح‏:‏ 3‏]‏‏.‏

وحرف ‏{‏مِنْ‏}‏ زائد للتوكيد، أي قبلَ أن يأتيهم عذاب فهي قبليَّة مؤكدة وتأكيدها باعتبار تحقيق ما أضيف إليه ‏{‏قبل‏}‏‏.‏

و«قوم نوح» هم الناس الذين كانوا عامرين الأرضَ يومئذٍ، إذ لا يوجد غيرهم على الأرض كما هو ظاهر حديث الشفاعة وذلك صريح ما في التوراة‏.‏

والقوم‏:‏ الجماعة من الناس الذين يجمعهم موطن واحد أو نسب واحد برجالهم ونسائهم وأطفالهم‏.‏

وإضافة ‏(‏قوم‏)‏ إلى ضمير ‏{‏نوح‏}‏ لأنه أرسل إليهم فلهم مزيد اختصاص به، ولأنه واحد منهم وهم بيَن أبناءٍ لَه وأنسباءٍ فإضافتهم إلى ضميره تعريف لهم إذ لم يكن لهم اسم خاص من أسماء الأمم الواقعة من بعد‏.‏

وعُدل عن أن يقال له‏:‏ أنذر الناس إلى قوله‏:‏ ‏{‏أنذر قومك‏}‏ إلهاباً لنفس نوح ليكون شديد الحرص على ما فيه نجاتهم من العذاب، فإن فيهم أبناءه وقرابته وأحبته، وهم عدد تكوّن بالتوالد في بني آدم في مدة ستمائة سنة من حلول جنس الإنسان على الأرض‏.‏ ولعل عددهم يوم أرسل إليهم نوح لا يتجاوز بضعة آلاف‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏2- 4‏]‏

‏{‏قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ ‏(‏2‏)‏ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ ‏(‏3‏)‏ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ‏(‏4‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ ياقوم إِنِّى لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ * أَنِ اعبدوا الله واتقوه وَأَطِيعُونِ * يَغْفِرْ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى‏}‏‏.‏

لم تعطف جملة ‏{‏قال يا قوم‏}‏ بالفاء التفريعية على جملة ‏{‏أرسلنا نوحاً إلى قومه‏}‏ ‏[‏نوح‏:‏ 1‏]‏ لأنها في معنى البيان لجملة ‏{‏أنذر قومك‏}‏ ‏[‏نوح‏:‏ 1‏]‏ لدلالتها على أنه أنذر قومه بما أمره الله أن يقوله لهم، وإنما أُدمج فيه فعل قول نوح للدلالة على أنه أُمر أن يقول فقال، تنبيهاً على مبادرة نوح لإِنذار قومه في حين يلوغ الوحي إليه من الله بأن ينذر قومه‏.‏

ولك أن تجعلها استئنافاً بيانياً لجواب سؤال السامع أن يسأل ماذا فعل نوح حين أرسل الله إليه ‏{‏أن أنذر قومك، وهما متقاربان‏.‏

وافتتاح دعوته قومَه بالنداء لطلب إقبال أذهانهم ونداؤهم بعنوان‏:‏ أنهم قومه، تمهيد لقبول نصحه إذ لا يريد الرجل لقومه إلاّ ما يريد لنفسه‏.‏ وتصدير دعوته بحرف التوكيد لأن المخاطبين يترددون في الخبر‏.‏

والنذير‏:‏ المنذر غير جار على القياس، وهو مثل بشير، ومثل حكيم بمعنى محكم، وأليم بمعنى مؤلم، وسميع بمعنى مسمع، في قول عَمرو بن معديكرب‏:‏

أمِنْ ريْحانةَ الداعي السميع ***

وقد تقدم في أول سورة البقرة ‏(‏10‏)‏ عند قوله‏:‏ ‏{‏ولهم عذاب أليم‏}‏ وحذف متعلق ‏{‏نذير‏}‏ لدلالة قوله‏:‏ ‏{‏أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون‏}‏ عليه‏.‏ والتقدير‏:‏ إنّي لكم نذير بعذاب أليم إن لم تعبدوا الله ولم تتقُوه ولم تطيعوني‏.‏

والمبين‏:‏ يجوز أن يكون من أبان المتعدّي الذي مجرده بَانَ، أي مُوَضِّح أو مِن أبان القاصر، الذي هو مرادف بَان المجردِ، أي نذير وَاضح لكم أني نذير، لأني لا أجتني من دعوتكم فائدة من متاع الدنيا وإنما فائدة ذلك لكم، وهذا مثل قوله في سورة الشعراء ‏(‏109، 110‏)‏ ‏{‏وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلاّ على ربّ العالمين فاتقوا الله وأطيعون‏.‏‏}‏ وتقديم ‏{‏لكم‏}‏ على عامله وهو ‏{‏نذير‏}‏ للاهتمام بتقديم ما دلت عليه اللام من كون النذارة لفائدتهم لا لفائدته‏.‏

فجمع في صدر دعوته خمسة مؤكدات، وهي‏:‏ النداءُ وجعلُ المنادَى لفظ ‏{‏يا قوم‏}‏ المضاف إلى ضميره، وافتتاحُ كلامه بحرف التأكيد، واجتلابُ لام التعليل، وتقديمُ مجرورها‏.‏

و ‏{‏أن‏}‏ في ‏{‏أن اعبدوا‏}‏ تفسيرية لأن وصف ‏{‏نذير‏}‏ فيه معنى القول دون حروفه، وأمرهم بعبادة الله لأنهم أعرضوا عنها ونسوها بالتمحض لأصنامهم، وكان قوم نوح مشركين كما دل عليه قوله تعالى في سورة يونس ‏(‏71‏)‏ ‏{‏فأجمِعوا أمركم وشرُكاءكم‏}‏ وبذلك كان تمثيل حال المشركين من العرب بحال قوم نوح تمثيلاً تاماً‏.‏

واتقاء الله اتقاء غضبه، فهذا من تعليق الحكم باسم الذات‏.‏ والمراد‏:‏ حال من أحوال الذات من باب ‏{‏حرمت عليكم الميتة‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 3‏]‏ أي أكلها، أي بأن يعلموا أنه لا يرضى لعباده الكفر به‏.‏ وطاعتهم لنوح هي امتثالهم لما دعاهم إليه من التوحيد وقد قال المفسرون‏:‏ لم يكن في شريعة نوح إلاّ الدعوةُ إلى التوحيد فليس في شريعته أعمال تُطلب الطاعة فيها، لكن لم تخل شريعة إلهية من تحريم الفواحش مثل قتل الأنفس وسلب الأموال، فقوله‏:‏ ‏{‏يغفر لكم من ذنوبكم‏}‏ ينصرف بادئ ذي بدء إلى ذنوب الإِشراك اعتقاداً وسجوداً‏.‏

وجَزْمُ ‏{‏يغفر لكم من ذنوبكم‏}‏ في جواب الأوامر الثلاثة ‏{‏اعبدوا الله واتقوه وأطيعون‏}‏، أي إن تفعلوا ذلك يغفر الله لكم من ذنوبكم‏.‏ وهذا وعد بخير الآخرة‏.‏

وحرف ‏{‏مِن‏}‏ زائد للتوكيد، وهذا من زيادة ‏{‏مِن‏}‏ في الإيجاب على رأي كثير من أيمة النحو مثل الأخفش وأبي علي الفارسي وابن جنيّ من البصريين وهو قول الكسائي وجميععِ نحاة الكوفة‏.‏ فيفيد أن الإيمان يَجُبُّ ما قبله في شريعة نوح مثل شريعة الإِسلام‏.‏

ويجوز أن تكون ‏{‏مِن‏}‏ للتبعيض، عند من أثبت ذلك وهو اختيار التفتزاني، أي يغفر لكم بعض ذنوبكم، أي ذنوب الإِشراك وما معه، فيكون الإيمان في شرع نوح لا يقتضي مغفرة جميع الذنوب السابقة، وليس يلزم تماثل الشرائع في جميع الأحكام الفرعية، ومغفرةُ الذنوب من تفاريع الدين وليست من أصوله‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ معنى التبعيض‏:‏ مغفرة الذنوب السابقة دون ما يذنبون من بعد‏.‏ وهذا يتم ويحسن إذا قدرنا أن شريعة نوح تشتمل على أوامر ومنهيات عملية فيكون ذكر ‏{‏مِن‏}‏ التبعيضية اقتصاداً في الكلام بالقدر المحقق‏.‏

وأما قوله‏:‏ ‏{‏ويؤخركم إلى أجل مسمى‏}‏ فهو وعد بخير دنيوي يستوي الناس في رغبته، وهو طول البقاء فإنه من النعم العظيمة لأن في جبلة الإِنسان حُب البقاء في الحياة على ما في الحياة من عوارضَ ومكدرات‏.‏ وهذا ناموس جعله الله تعالى في جبلة الإِنسان لتجري أعمال الناس على ما يعين على حفظ النوع‏.‏ قال المعري‏:‏

وكلّ يريدُ العيشَ والعيشُ حَتفُه ويستعْذِبُ اللذاتتِ وهي سِمَام ***

والتأخيرُ‏:‏ ضد التعجيل، وقد أطلق التأخير على التمديد والتوسيع في أجل الشيء‏.‏

وقد أشعر وعدُه إياهم بالتأخير أنه تأخير مجموعهم، أي مجموع قومه لأنه جُعل جزاءً لكل من عَبدَ الله منهم واتقاه وأطاع الرسول، فدل على أنه أنذرهم في خلال ذلك باستئصال القوم كلهم، وأنهم كانوا على علم بذلك كما أشار إليه قوله‏:‏ ‏{‏أن أنذر قومك من قبل أن يأتيهم عذاب أليم‏}‏ ‏[‏نوح‏:‏ 1‏]‏ كما تقدم آنفاً، وكما يفسره قوله تعالى في سورة هود ‏(‏38‏)‏ ‏{‏ويصنَعُ الفلك وكلَّما مرّ عليه ملأ من قومه سَخِروا منه‏}‏ أي سخروا من الأمر الذي يصنع الفلك للوقاية منه وهو أمر الطوفان، فتعين أن التأخير المراد هنا هو عدم استئصالهم‏.‏ والمعنى‏:‏ ويؤخر القوم كلهم إلى أجل مسمى وهو آجال إشخاصهم وهي متفاوتة‏.‏

والأجل المسمى‏:‏ هو الأجل المعين بتقدير الله عند خلقةِ كل أحد منهم، فالتنوين في ‏{‏أجل‏}‏ للنوعية، أي الجنس، وهو صادق على آجال متعددة بعدد أصحابها كما قال تعالى‏:‏

‏{‏ومنكم من يتوفى ومنكم من يُرَدّ إلى أرذل العمر‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 5‏]‏‏.‏

ومعنى ‏{‏مسمى‏}‏ أنه محدد معيّن وهو ما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأجل مسمى عنده‏}‏ في سورة الأنعام ‏(‏2‏)‏‏.‏

فالأجل المسمى‏:‏ هو عمر كل واحد، المعيّنُ له في سَاعةِ خلْقه المشار إليه في الحديث أن المَلَك يؤمر بكتب أجل المخلوق عندما يَنفُخ فيه الروحَ، واستعيرت التسمية للتعيين لشَبه عدم الاختلاط بين أصحاب الآجال‏.‏

والمعنى‏:‏ ويؤخركم فلا يعجل بإهلاككم جميعاً فيؤخر كل أحد إلى أجله المعيّن له على تفاوت آجالهم‏.‏

فمعنى هذه الآية نظير معنى آية سورة هود ‏(‏3‏)‏ ‏{‏وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتّعْكم متاعاً حسناً إلى أجللٍ مسمّى‏}‏ وهي على لسان محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏

‏{‏إِنَّ أَجَلَ الله إِذَا جَآءَ لاَ يُؤَخَّرُ لَوْ كُنتُمْ‏}‏‏.‏

يحتمل أن تكون هذه الجملة تعليلاً لقوله‏:‏ ‏{‏ويؤخرْكم إلى أجل مسمى،‏}‏ أي تعليلاً للربط الذي بين الأمر وجزائه من قوله‏:‏ ‏{‏أن اعبدوا الله‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏ويؤخِّركم‏}‏ الخ لأن الربط بين الأمْر وجوابِه يعطي بمفهومه معنى‏:‏ إِنْ لا تعبدوا الله ولا تتقوه ولا تطيعوني لا يغفر لكم ولا يؤخركم إلى أجل مسمى، فعُلل هذا الربط والتلازم بين هذا الشرط المقدر وبين جزائه بجملة ‏{‏إنّ أجل الله إذا جاء لا يؤخر‏}‏، أي أن الوقت الذي عيّنه الله لحلول العذاب بكم إن لم تعبدوه ولم تطيعون إذا جاء إِبَّانه باستمراركم على الشرك لا ينفعكم الإِيمان ساعتئذٍ، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلاّ قوم يونس لما ءامنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 98‏]‏، فيكون هذا حثاً على التعجيل بعبادة الله وتقواه‏.‏

فالأجَل الذي في قوله‏:‏ ‏{‏إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر‏}‏ غير الأجل الذي في قوله‏:‏ ‏{‏ويؤخركم إلى أجللٍ مسمى‏}‏ ويُناسِب ذلك قولُه عقبه ‏{‏لو كنتم تعلمون‏}‏ المقتضي أنهم لا يعلمون هذه الحقيقة المتعلقة بآجال الأمم المعيَّنة لاستئصالهم، وأما عدم تأخير آجال الأعمار عند حلولها فمعلوم للناس مشهور في كلام الأولين‏.‏ وفي إضافة ‏{‏أجل‏}‏ إلى اسم الجلالة في قوله‏:‏ ‏{‏إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر‏}‏ إيماء إلى أنه ليس الأجل المعتاد بل هو أجل عيّنه الله للقوم إنذاراً لهم ليؤمنوا بالله‏.‏ ويحتمل أن تكون الجملة استئنافاً بيانياً ناشئاً عن تحديد غاية تأخيرهم إلى أجل مسمى، أي دون تأخيرهم تأخيراً مستمراً فيسأل السامع في نفسه عن علة تنهية تأخيرهم بأجل آخر فيكون أجل الله غير الأجل الذي في قوله‏:‏ ‏{‏إلى أجل مسمى‏}‏‏.‏

ويحتمل أن تكون الجملة تعليلاً لكلا الأجلين‏:‏ الأجل المفاد من قوله‏:‏ ‏{‏من قبل أن يَأتيهُم عذابٌ أليم‏}‏ ‏[‏نوح‏:‏ 1‏]‏ فإن لفظ ‏{‏قبل‏}‏ يؤذن بأن العذاب موقت بوقت غير بعيد فله أجل مُبْهم غير بعيد، والأجَل المذكورِ بقوله‏:‏ ‏{‏ويؤخركم إلى أجل مسمى‏}‏ فيكون أجل الله صادقاً على الأجل المسمى وهو أجل كل نفس من القوم‏.‏

وإضافته إلى الله إضافة كشف، أي الأجل الذي عينه الله وقدره لكل أحد‏.‏

وبهذا تعلم أنه لا تعارض بين قوله‏:‏ ‏{‏ويؤخركم إلى أجل مسمى‏}‏ وبين قوله‏:‏ ‏{‏إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر‏}‏ إما لاختلاف المراد بلفظيّ ‏(‏الأجل‏)‏ في قوله‏:‏ ‏{‏إلى أجل مسمى‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر،‏}‏ وإما لاختلاف معنيي المجيء ومعنيي التأخير في قوله‏:‏ ‏{‏إذا جاءَ لا يؤخر‏}‏ فانفكت جهة التعارض‏.‏

أما مسألة تأخير الآجال والزيادة في الأعمار والنقص منها وتوحيد الأجل عندنا واضطراب أقوال المعتزلة في هل للإِنسان أجل واحد أو أجلان فتلك قضية أخرى ترتبط بأصلين‏:‏ أصل العلم الإلهي بما سيكون، وأصل تقدير الله للأسباب وترتُّب مسبباتها عليها‏.‏

فأما ما في علم الله فلا يتغير قال تعالى‏:‏ ‏{‏وما يعمَّر من معمَّر ولا يُنقص من عمره إلاّ في كتاب‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 11‏]‏ أي في علم الله، والناس لا يطلعون على ما في علم الله‏.‏

وأما وجودُ الأسباب كلها كأسباب الحياة، وترتبُ مسبباتها عليها فيتغير بإيجاد الله مغيِّراتتٍ لم تكن موجودة إكراماً لبعض عباده أو إهانة لبعض آخر‏.‏ وفي الحديث صدقة المرء المُسلم تزيد في العُمر‏.‏ وهو حديث حسن مقبول‏.‏ وعن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم من سره أن يُمد في عمره فليتق الله وليصِل رحمه‏.‏ وسنده جيد‏.‏ فآجال الأعمار المحددة بالزمان أو بمقدار قوة الأعضاء وتناسب حركاتها قابلة للزيادة والنقص‏.‏ وآجال العقوبات الإلهية المحددة بحصول الأعمال المعاقب عليها بوقت قصير أو فيه مُهلة غير قابلة للتأخير وهي ما صْدَقُ قوله‏:‏ ‏{‏إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر‏}‏ وقد قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 39‏]‏ على أظهر التأويلات فيه وما في علم الله من ذلك لا يخالف ما يحصل في الخارج‏.‏

فالذي رغَّب نوحٌ قومَه فيه هو سبب تأخير آجالهم عند الله فلو فعلوه تأخرتْ آجالهم وبتأخيرها يتبين أن قد تقرر في علم الله أنهم يعملون ما يدعوهم إليه نوح وأن آجالهم تطول، وإذ لم يفعلوه فقد كُشف للناس أن الله علم إنهم لا يفعلون ما دعاهم إليه نوح وأن الله قاطع آجالهم، وقد أشار إلى هذا المعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم «اعملُوا فكل مُيسَّر إلى ما خُلق له» وقد استعصى فهم هذا على كثير من الناس فخلطوا بين ما هو مقرر في علم الله وما أظهره قدر الله في الخارج الوجودي‏.‏

وفي إقحام فعل ‏{‏كنتم‏}‏ قبل ‏{‏تعلمون‏}‏ إيذان بأن علمهم بذلك المنتفيَ لوقوعه شرطاً لحرف ‏{‏لو‏}‏ محقق انتفاؤه كما بيناه في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أكان للناس عجباً أن أوحينا إلى رجل منهم‏}‏ في سورة يونس ‏(‏2‏)‏‏.‏

وجواب لو‏}‏ محذوف دل عليه قوله‏:‏ ‏{‏لا يؤخَّر‏}‏‏.‏ والتقدير‏:‏ لأيقنتم أنه لا يؤخر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏5- 6‏]‏

‏{‏قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا ‏(‏5‏)‏ فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا ‏(‏6‏)‏‏}‏

جرد فعل ‏{‏قال‏}‏ هنا، من العاطف لأنه حكاية جواب نوح عن قول الله له ‏{‏أنْذِر قومك‏}‏ ‏[‏نوح‏:‏ 1‏]‏ عومل معاملة الجواب الذي يُتلقى به الأمر على الفور على طريقة المحاورات التي تقدمت في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏30‏)‏، تنبيهاً على مبادرة نوح بإبلاغ الرسالة إلى قومه وتمام حرصه في ذلك كما أفاده قوله‏:‏ ‏{‏ليلاً ونهاراً‏}‏ وحصول يأسه منهم، فجعل مراجعته ربه بعد مهلة مستفادة من قوله‏:‏ ‏{‏لَيْلاً ونهاراً‏}‏ بمنزلة المراجعة في المقام الواحد بين المتحاورَيْن‏.‏ ولك أن تجعل جملة ‏{‏قال رب‏}‏ الخ مستأنفة استئنافاً بيانياً لأن السامع يترقب معرفة ماذا أجاب قوم نوح دعوته فكان في هذه الجملة بيان ما يترقبه السامع مع زيادة مراجعة نوح ربه تعالى‏.‏

وهذا الخبر مستعمل في لازم معناه وهو الشكاية والتمهيد لطلب النصر عليهم لأن المخاطب به عالم بمدلول الخبر‏.‏ وذلك ما سيفضي إليه بقوله‏:‏ ‏{‏وقال نوح رب لا تذَرْ على الأرض من الكافرين دياراً‏}‏ الآيات ‏[‏نوح‏:‏ 26‏]‏‏.‏

وفائدة حكاية ما ناجى به نوح ربه إظهارُ توكله على الله، وانتصار الله له، والإِتيانُ على مهمات من العبرة بقصته، بتلوين لحكاية أقواله وأقوال قومه وقول الله له‏.‏ وتلك ثمان مقالات هي‏:‏

‏{‏أن أنذر قومك‏}‏ الخ ‏[‏نوح‏:‏ 1‏]‏‏.‏

‏{‏قال يا قوم إني لكم نذير مبين‏}‏ الخ ‏[‏نوح‏:‏ 2‏]‏‏.‏

3 ‏{‏قال رب إني دعوت قومي‏}‏ الخ ‏[‏نوح‏:‏ 5‏]‏‏.‏

‏{‏فقلت استغفروا ربكم‏}‏ الخ ‏[‏نوح‏:‏ 10‏]‏‏.‏

‏{‏قال نوح رب إنهم عصوني‏}‏ الخ ‏[‏نوح‏:‏ 21‏]‏‏.‏

‏{‏ولا تزد الظالمين إلاّ ضلالاً‏}‏ الخ ‏[‏نوح‏:‏ 24‏]‏‏.‏

‏{‏وقال نوح رب لا تذر على الأرض‏}‏ الخ ‏[‏نوح‏:‏ 26‏]‏‏.‏

‏{‏رب اغفر لي‏}‏ الخ ‏[‏نوح‏:‏ 28‏]‏‏.‏

وجعل دعوته مظروفة في زمني الليل والنهار للدلالة على عدم الهوادة في حرصه على إرشادهم، وأنه يترصد الوقت الذي يتوسم أنهم فيه أقرب إلى فهم دعوته منهم في غيره من أوقات النشاط وهي أوقات النهار، ومن أوقات الهدوّ وراحة البال وهي أوقات الليل‏.‏

ومعنى ‏{‏لم يَزدهم دعائيَ إلاّ فراراً‏}‏ أن دعائي لهم بأن يعبدوا الله وبطاعتهم لي لم يزدهم ما دعوتهم إليه إلاّ بعداً منه، فالفرار مستعار لقوة الإِعْراض، أي فلم يزدهم دعائي إياهم قرباً مما أدعوهم إليه‏.‏

واستثناء الفرار من عموم الزيادات استثناء منقطع‏.‏ والتقدير‏:‏ فلم يزدهم دعائي قرباً من الهدى لكن زادهم فراراً كما في قوله تعالى حكاية عن صالح عليه السلام ‏{‏فما تزيدونني غير تخسير‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 63‏]‏‏.‏

وإسناد زيادة الفرار إلى الدعاء مجاز لأن دعاءه إياهم كان سبباً في تزايد إعراضهم وقوة تمسكهم بشركهم‏.‏

وهذا من الأسلوب المسمى في علم البديع تأكيد المدح بما يشبه الذم، أو تأكيدَ الشيء بما يشبه ضده، وهو هنا تأكيد إِعراضهم المشبه بالابتعاد بصورةٍ تشبه ضد الإِعراض‏.‏

ولما كان فرارهم من التوحيد ثابتاً لهم من قبل كان قوله‏:‏ ‏{‏لم يزدهم دعائي إلاّ فراراً‏}‏ من تأكيد الشيء بما يشبه ضده‏.‏

وتصدير كلام نوح بالتأكيد لإِرادة الاهتمام بالخبر‏.‏